من أصناف الملائكة وغيرهم حتّى تستوحشوا منه يستتبع نعما جليلة فانّه (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا) التّدوينيّة فينبّهكم بها ويعلّمكم بها آياتنا الآفاقيّة والانفسيّة أو يتلو عليكم آياتنا التّدوينيّة والأحكام الشّرعيّة ويتلو عليكم ويذكّر لكم آياتنا الآفاقيّة والانفسيّة (وَيُزَكِّيكُمْ) يطهّركم من الأخلاق الرّذيلة والنّقائص البشريّة أو يحملكم على الطّهارة عن النّجاسات الشّرعيّة والأدناس العرفيّة بتأسيس آداب النّظافة أو ينميكم في ذاتكم وصفاتكم أو يحملكم على تأدية زكوة أموالكم وأبدانكم ، أو يصلحكم ويجعلكم متنعّمين أو يعطشكم لأمور الآخرة (يُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) قد سبق بيان الكتاب والحكمة (وَيُعَلِّمُكُمُ) من الأمور الغيبيّة (ما لَمْ تَكُونُوا) بقوّتكم البشريّة (تَعْلَمُونَ) بالفكر والنّظر والتعلّم البشرىّ ممّا ذكر من أوصاف الجنّات الصّوريّة الّتى أنكرها أكثر الفلاسفة ومن دقائق الحكم المودعة في الأحكام الشّرعيّة من العبادات والمعاملات ومن كيفيّة ارتباط الأعمال البدنيّة بالأمور الغيبيّة والأخلاق النفسيّة فانّه لا طريق للبشر الى ادراك هذه الّا بطريق الوحي ولذا أنكر الفلاسفة الّذين يعدّون أنفسهم من العلماء أكثر العوالم الغيبيّة وأكثر الأحكام الشّرعيّة وأنكر الدّهريّة والطبيعيّة كلّ الأمور الشّرعيّة والعوالم الغيبيّة. وقدّم التّزكيّة على تعليم الكتاب والحكمة هاهنا وفي سورة آل عمران في قوله تعالى : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ؛) الآية ، وفي سورة الجمعة في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ ؛) الآية بخلاف دعوة إبراهيم (ع) الّتى سبقت للاشعار بإجابة دعاء إبراهيم (ع) والتفضّل عليه (ع) بالزيادة على مسئوله فانّ التعليم الّذى هو قبل التزكية ليس الّا بالعلم التّقليدىّ الّذى يكون عاديّة للعالم به بخلاف التّعليم الّذى هو بعد التّزكية فانّه يكون بالعلم التحقيقىّ بمراتبه من علم اليقين وعين اليقين وحقّ اليقين ولهذا أضاف على دعائه قوله تعالى : (ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ).
تحقيق الذّكر ومراتبه وفضائله
(فَاذْكُرُونِي) باللّسان جهرا ودون الجهر وبالجنان سرّا وعند الفعال بتذكرّ الأمر والنّهى وعند النّعم بالشكر (أَذْكُرْكُمْ) الذّكر بالكسر حفظ الشّيء في الخاطر ويستعمل في اجرائه على اللّسان وفي الصّيت والشّرف وقوله (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) يحتملهما وإطلاقه على المعاني الثّلاثة بمناسبة التذكار في الخاطر ، والآيات والاخبار الدّالّة على فضيلة ذكر الله كثيرة وكفى في فضله هذه الآية الدّالّة على ايراث ذكر العبد لله ذكر الله له ؛ ولا شرف أشرف منه ، وما ورد في عدّة اخبار قدسيّة من قوله تعالى : انا جليس من ذكرني ؛ يدلّ على أنّه لا شرف أشرف منه وما ورد عن الصّادق (ع) انّه قال : من كان ذاكرا لله على الحقيقة فهو مطيع ، ومن كان غافلا عنه فهو عاص ، والطّاعة علامة الهداية والمعصية علامة الضّلالة ، وأصلهما من الذّكر والغفلة ، وهذا الخبر يدلّ على انّ الطّاعات بذكر الله طاعات وإذا كانت خالية عن ذكر الله بان كان العابد غافلا عن الله حين العبادة كانت معصية ، وروى عن الباقر (ع) انّه قال : لا يزال المؤمن في صلوة ما كان في ذكر الله قائما كان أو جالسا أو مضطجعا ؛ انّ الله سبحانه يقول : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) ، وهذا يدلّ على انّ ذكر الله هو الصّلوة أو هو حقيقة الصّلوة وروحها ، والصّلوة قالبه ولذا كانت أكبر من الصّلوة ، والآيات الدّالّة على النّهى عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه والأمر بالأكل أو إباحة الأكل ممّا ذكر اسم الله عليه إذا عمّم الأكل والأكل والمأكول تدلّ على انّ ذكر الله هو المحلّل والمبيح للأشياء والأفعال