ما يأتى أو ما مضى كما مضى الاشارة اليه عند قوله (فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها)(وَما خَلْفَهُمْ) يعلم بالمقايسة (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ).
بيان الاحاطة بما شاء الله من علمه
اعلم انّ العلم بمعنى ظهور الشّيء عند شيء آخر له معنى مصدرىّ هو من المفاهيم العامّة ومعنى ينتزع ذلك الظّهور منه وهو صورة المعلوم الّتى حصلت عند العالم هذا في العلوم الحصوليّة وامّا العلم الحضورىّ فليس هناك ما به الظّهور وغير الظّاهر ، بل المعلوم بذاته حاضر عند العالم لا بصورة ينتزع منها المعنى المصدرىّ للعلم فالعلم والمعلوم فيه متّحد ان وإذا كان المعلوم بالعلم الحضورىّ ذات العالم كان العلم والمعلوم والعالم متّحدة وعلى ما قيل وهو الحقّ ؛ انّ العلوم الصوريّة شؤن للعالمين وليست كيفيّات نفسانيّة ولا إضافات كما قيل كان العلم والعالم فيها متّحدين ، وإذا كان العلوم الحضوريّة شؤن العالمين كما قيل وهو الحقّ كان العلم الحضورىّ والعالم والمعلوم متّحدة مطلقا ، ولمّا كان علم الله بالأشياء عالياتها ودانياتها بحضور وجوداتها عنده لا بحصول صورها فيه أو في لوح حاضر عنده كما قيل كان جملة ما سوى الله علومه تعالى كما انّها معلومات له لاتّحاد العلم والمعلوم كما علمت والصّور الحاصلة في النّفوس والحاضرة عندها من جملة معلوماته تعالى وعلومه تعالى ، وعلى ما ذكر انّ العلم شأن من النّفس الانسانيّة كان الإنسان محيطا بعلمه حضوريّا كان أم حصوليّا ولما كان العلوم حادثة وكلّ حادث مسبوق بمشيّته تعالى لم يكن يحدث علم الّا بمشيّته تعالى فتبيّن معنى قوله تعالى (لا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) وانّ المعنى لا يحدث لأحد شيء من علم الله الّا بمشيّته تعالى (وَسِعَ) هذه كالجمل السّابقة في الوجوه المحتملة (كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) المشيّة بوجهها الى الله عرش وبوجهها الى الخلق كرسىّ ، ويسمّى الفلك الثامن لكونه مظهرا للكرسىّ بالكرسىّ كما يسمّى الفلك المحيط بالعرش ، ولمّا كانت المشيّة فعله تعالى وهو لا بشرط شيء ويجتمع مع كلّ شرط وفيها جميع صفاته وأسمائه بوجود واحد جمعىّ جاز تفسير الكرسىّ بالعلم وتفسير العرش بجملة الخلق وصحّ ورود الاخبار بالاختلاف في تفسيرهما ؛ فعن النّبىّ (ص): ما السّموات السّبع والأرضون السّبع مع الكرسىّ الّا كحلقة ملقاة في فلاة ، وفضل العرش على الكرسىّ كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة ، وعن الصّادق (ع) انّه قال : حين سئل عن العرش والكرسىّ ما هما؟ ـ العرش في وجه هو جملة الخلق والكرسىّ وعاؤه ، وفي وجه آخر : العرش هو العلم الّذى اطّلع الله عليه الأنبياء (ع) ورسله (ع) وحججه (ع) والكرسىّ هو العلم الّذى لم يطّلع عليه أحدا من أنبيائه (ع) ورسله (ع) وحججه (ع) (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) لا يثقله حفظه لهما (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) حال بمنزلة التّعليل (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) استيناف منقطع عن سابقه والدّين الجزاء والإسلام والعادة والعبادة والطّاعة والغلبة والسّلطان والملك والحكم والسّيرة والتّوحيد واسم لجميع ما يتعبّد الله به والملّة والعزّة والذّلّة والمراد به هاهنا الإسلام الحقيقىّ الّذى هو الطّريق الى الايمان الّذى هو طريق الآخرة ، أو المراد الايمان الحقيقىّ الّذى هو البيعة الخاصّة الولويّة الّتى يعبّر عنها بالولاية ، أو المراد السّلوك الى الآخرة بالايمان ، ولذلك نفى الإكراه عنه والّا فالدّين بمعنى مطلق الإسلام أو العبادة أو الطّاعة أو السّيرة أو الملّة كثيرا ما كان يحصل بالسّيف كما قال (ص): انا نبىّ السّيف ، وامّا الإسلام الحقيقىّ والايمان الحقيقىّ والسّلوك الى الآخرة فلا يمكن الإكراه فيها لأنّها امر معنوىّ لا يتصوّر الإكراه الجسمانىّ فيها ، أو نقول : ليس الدّين الّا الولاية الّتى هي البيعة الخاصّة الولويّة وقبول الدّعوة الباطنة ، وما سواها يسمّى بالدّين لكونه مقدّمة لها ، أو مسبّبا عنها ،