يعنى الغنىّ الذميم قد يقبل الردىّ بخلاف الحميد فهما كناية عن عدم قبول الردّى أصلا (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما بالنا لا نقدر على إنفاق الطيّب وترك تيمّم الخبيث في الإنفاق؟ ـ فقال : لانّ الشّيطان يعدكم (الْفَقْرَ) اى يوعدكم ويخوّفكم (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) اى البخل بالطيّب فانّ البخيل يسمّى بالفاحش في لغة العرب وحينئذ لم يكن ما بعده جزاء من الجواب أو التّقدير لم أمرنا الله بالإنفاق من الطيّب ونهانا عن تيمّم الخبيث؟ ـ فقال : لانّ الإنفاق من الطيّب ليس الّا بالخروج من انانيّة النفس وحكومته والدّخول في حكومة الله وامره ، والإنفاق من الخبيث بدل الطيّب ليس الّا من حكومة الشّيطان والدّخول تحت امره والشّيطان يخوّفكم بالفقر ثمّ يأمركم بالفحشاء (وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً) كان مقتضى المطابقة بين الفقرتين ان يقول والله يعدكم الغنى ويأمركم بالمعروف لكنّه عدل الى ما ذكر لاستنباط الأمر بالمعروف من الأمر بإنفاق الطيّب ، وللاشارة الى انّ وعد الله يعمّ الدّنيا والآخرة بخلاف إيعاد الشّيطان فانّه لا يتجاوز عن الدّنيا ، وقدّم المغفرة لانّها وعد اخروىّ بخلاف الفضل ، ونكّرهما للتفخيم ، وأتى بالفضل مقام الغنى للاشعار بانّ الغنى الموعود ليس كالغنى الموهوم الّذى ليس الّا الفقر والحاجة والعناء بل هو من فضل الله الّذى لا فقر فيه ولا نصب ولا نفاد ، وقدّم إيعاد الشّيطان لكون المقام لذمّ الّذين تيمّموا الخبيث فاقتضى المقام الاهتمام بايعاد الشّيطان ولان يختم الآية بالخير كما بدئت به ولارادة انجرار وعد الله الى إيتاء الحكمة والخروج عن مقام ذكر الوعد والإيعاد (وَاللهُ واسِعٌ) لا يخاف الضّيق والفقر فلا خلف في وعده (عَلِيمٌ) بمصالحكم فلا يأمركم الّا بما فيه صلاحكم ، ولا ينهاكم الّا عمّا فيه فسادكم.
بيان الحكمة ومراتبها
(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ) جواب لسؤال مقدّر كأنّ الرّسول (ص) بعد ما أيقن وشاهد المفاسد المترتّبة على طاعة الشّيطان والمصالح اللّازمة لطاعة الله قال : ما للنّاس لا يتأمّلون ولا ينظرون الى تلك المفاسد والمصالح؟! ولا يرتدعون عن تلك ولا يرغبون في هذه؟ ـ فقال : لانّ النّظر في دقائق هذه والعمل بمقتضاها من شعبتى الحكمة النّظريّة والعمليّة ولا يؤتى الله الحكمة لكلّ أحد بل يؤتيها (مَنْ يَشاءُ) ويجوز ان تكون الجملة حاليّة أو خبرا بعد خبر مفيدة لهذا المعنى ، والحكمة كما مرّ عبارة عن ادراك دقائق المصنوع الإلهي وغاياته المترتّبة عليه ؛ وهي الحكمة النّظريّة ، وعن القدرة على صنع مصنوع مشتمل على دقائق الصّنع والغايات المترتّبة الى غاية هي أشرف الغايات بالنّسبة الى مقام الصّانع ؛ وهي الحكمة العمليّة ، وتطلق الحكمة على كلّ واحد منهما وعلى المجموع ، ولمّا كان ادراك الدّقائق المودعة في المصنوعات واعمال الدّقائق المتصوّرة لها خاصّين بالله فالحكيم على الإطلاق هو الله تعالى وسائر النّاس حكماء بقدر ادراكهم وقدرتهم على الصّنع ، وتلك الحكمة اى ادراك دقائق المصنوع الالهىّ والغايات المترتّبة عليه والقدرة على صنع مصنوع مشتمل على غايات منتهية الى غاية هي أشرف الغايات لا يمكن حصولها الّا بعد فتح باب القلب بالولاية لانّه ما لم يفتح باب القلب لم يفتح عين القلب ، وما لم يفتح عين القلب لم يمكن الإدراك الّا بعين الخيال ، والخيال مخطئ في إدراكه وغير متجاوز عن الغايات الدّنيويّة ، وإذا فتح باب القلب بالولاية يدرك الإنسان اوّلا دقائق الصّنع المودعة في نفسه وعالمه الصّغير ، ويدرك حيل الشّيطان في اغوائه ، ولطائف الملك في تصرّفه ، ويقدر على دفع حيل الشّيطان وتقوية تصرّف الملك ، فاذا استقام في ذلك وخلص من تصرّف الشّيطان تمكّن من ادراك دقائق الصّنع في العالم الكبير والغايات المترتّبة على مصنوعاته تعالى ، ويقدر