الافتعال إذا لم يفد المطاوعة يدلّ على المبالغة وعلى هذا فلا حاجة الى التّكليف في توجيه صحّة الإتيان به هاهنا لانّ ما بعد لو هذه يكون أخفى افراد الشّرط (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) وأتى في هذه بالفاء في خبر الموصول تأكيدا للزوم الجزاء للشّرط ، وترك الفاء في خبر الموصول في القرين السّابق مع انّه كان اولى بالتّأكيد والبسط والتّغليظ لانّ المرتدّ الّذى ازداد في كفره لوضوح عقابه وشدّة عذابه كأنّ عذابه كان من المسلّميّات فلا حاجة له الى التّأكيد والتّغليظ والبسط ولذلك اقتصر فيه على ذكر عدم قبول التّوبة وكونهم من الضّالّين من دون ذكر عذاب وكيفيّة عقاب لهم بخلاف السّابق عليه واللاحق به ، ولذلك ولكون الضّلالة من اوصافهم لا بيانا لعقابهم أتى بالعاطف في قوله (وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) بخلاف قوله في السّابق (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ) ، الآية ، وبخلاف قوله في اللّاحق : (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) فانّ الإتيان بالعاطف اشارة الى انّه معطوف ومعدود من اوصافهم المعلومة وليس المقام مقام سؤال حتّى يجعل جوابا لسؤال مقدّر بخلاف الفقرتين الأخريين.
الجزء الرّابع
(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) منقطع عن سابقه لفظا ومعنى أو جواب لسؤال ناش عن سابقه كأنّه بعد ما ذكر الأصناف الاربعة من المنحرفين والمرتدّين والكافرين سأل سائل : بم ننال الايمان والثّبات فيه ومقام الإحسان؟ ـ فقال : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) اى الجنّة أو الخير أو الاتّساع في الإحسان أو الصّدق أو الطّاعة أو خصلة الإحسان الى الغير فانّ الكلّ معاني البرّ والكلّ مناسب لمقام السّؤال (حَتَّى تُنْفِقُوا) قد مضى معنى الإنفاق في اوّل سورة البقرة (مِمَّا تُحِبُّونَ) اى بعض ما تحبّون فانّ الإحسان والمحبوبيّة للإنسان لا يحصل الّا بالتّوسّط في الأخلاق ولمّا كان محبوب الإنسان في كلّ مرتبة شيئا غير ما في المرتبة الاخرى ولعلّ محبوبه في مرتبة يكون مبغوضا له بحسب مرتبة اخرى ومحبوب كلّ مرتبة لا يكون بالنّسبة الى جميع الإفراد محبوبا بل قد يكون محبوبا لبعض ومبغوضا لبعض آخر ، وقد يكون محبوبا لشخص في حال مبغوضا له في حال آخر فلا يكون الإنفاق ولا المنفق مخصوصا بشيء ولا واقفا على حدّ بل نقول : محبوب الإنسان في كلّ مرتبة نفسه ولوازم نفسه وموافقاتها في تلك المرتبة والأصل في كلّ إنفاق ان يكون ناشئا أو مورثا لانفاق شيء من انانيّته حتّى يكون مقبولا فانّ المنفق إذا أنفق لا بقاء انانيّته أو لازدياد انانيّته مثل المرائى والمعجب بنفسه والمنفق لإبقاء الباطل أو ابطال الحقّ لم يكن إنفاقه مقبولا ولا مورثا للبرّ والإحسان بل يكون مردودا ومورثا للبعد من البرّ (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ) احقر ما يكون فلا يفوت عن الله (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) فيجازيكم بأضعافه فلا تخافوا من فوته وافنائه (كُلُّ الطَّعامِ) الطّعام المطعوم بالفعل أو بالقوّة كالبرّ والشّعير والمراد تعميم الطّعام بالاضافة الى ما قالت اليهود انّه كان حراما على الأنبياء السّابقة لا بالنّسبة الى كلّما يمكن ان يطعم ، وهذا ردّ على اليهود وجواب لانكارهم تحريم الطّيّبات عليهم ببغيهم فانّ اليهود بعد ما نزل وسمعوا قوله تعالى (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) وقوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ ،) قالوا : لسنا باوّل من حرّمت عليه وقد كانت محرّمة على نوح (ع) وإبراهيم (ع) ومن بعده من بنى إسرائيل الى ان انتهى التّحريم