والخذلان ولمّا كان حجّ بيت الله عبادة جامعة بين اتعاب البدن وكسر انانيّة النّفس وقطع علاقتها عن متمنّياتها وتجرّدها عن مشتهياتها مع بذل المال وإنفاقه ولم يكن سائر العبادات كذلك ندب الله تعالى اليه واكّده بأنواع التأكيدات ثمّ أمر نبيّه ان يخاطب أهل الكتاب بالتّقريع على الكفر بالآيات تعريضا بامّته في ترك الحجّ والكفر بعلىّ (ع) فقال (قُلْ) يا محمّد (ص) (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) التّدوينيّة من آيات القرآن والتّوراة والإنجيل والتّكوينيّة والأحكام الإلهيّة الثّابتة في الشّرائع الثّلاث (وَاللهُ شَهِيدٌ) حاضر أو حافظ (عَلى ما تَعْمَلُونَ) فيجازيكم على كفركم بالآيات ولا ينفعكم التّحريف والاستسرار (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) تكرار الخطاب والنّداء للتّأكيد في التّقريع وللاشارة الى انّ كلّا يكفى في التّقريع (لِمَ تَصُدُّونَ) تمنعون (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عن الحجّ أو الجهاد أو مطلق الخير أو الولاية أو الإسلام (مَنْ آمَنَ) حصل له الإسلام أو من أراد الإسلام ، قيل كانوا يمنعون المسلمين عن الايتلاف والاتّفاق وكانوا يحرّشون بينهم حتّى أتوا الأوس والخزرج فذكّروهم ما بينهم في الجاهليّة من التّعادى والتقاتل ليعودوا لمثله ، أو المعنى لم تمنعون من آمن بتحريف الكتب وتغيير صفة النّبىّ (ص) وكتمان ما دلّ صريحا على حقّيّة الإسلام (تَبْغُونَها) حال عن فاعل تصدّون أو عن سبيل الله أو عن كليهما أو مستأنف جواب لسؤال مقدّر والمعنى تبغون لها (عِوَجاً) أو تبغونها معوّجة أو تبغون عوجها على ان يكون مفعولا به أو حالا أو تميزا يعنى تتجسّسون الاختلاف والمناقضات المترائاة فيها لتوهنوها على أهلها أو ترغبون فيها ان كانت معوّجة لانّكم ذوو عوج ولا تطلبونها حالكونها مستقيمة ، والعوج بالفتحتين والعوج بكسر العين مصدر أعوج كفرح ، أو الاوّل مصدر والثّانى اسم مصدر ، أو الاوّل في المنتصبات مثل الجدار والعصا والثّانى في غيرها مثل الأرض والدّين ، والعوج في كلّ شيء بحسبه فالعوج في الدّين ان يكون في احكامه اختلاف وتناقض بحيث يشمئزّ منه الطّبائع السّليمة ، أو يكون موصلا الى ضدّ ما يكون مطلوبا منه ، أو لا يكون موصلا الى المطلوب منه ، فانّ المطلوب من سبيل الله والتديّن بدين الله ان توصل المتوسّل بها الى الله والى دار نعيمه ، فان توصل الى الشّيطان ودار جحيمه أو لم توصل الى الله كانت معوّجة (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) جمع الشّهيد بمعنى الحامل للشّهادة أو المؤدّى لها أو الأمين فيها ، أو بمعنى العالم ، وعلى اىّ تقدير فهو امّا منسىّ المفعول أو منويّه اى أنتم الّذين يستشهد بكم أهل ملّتكم في قضاياهم ، أو أنتم الأمناء في شهاداتهم وعليكم اعتمادهم ، أو أنتم علماء ملّتكم ، أو أنتم تشهدون بانّ السّبيل سبيل الله ، أو تشهدون انّكم تصدّون عن سبيل الله (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وعيد لهم ولمّا كان القبيح في الآية الاولى الكفر الّذى كانوا يجهرون به وفي هذه الآية حيلتهم في صدّ المسلمين عن الإسلام وكانوا يخفونه أتى في الاولى بقوله (وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) وفي هذه الآية بقوله (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ) لانّ إخفاء القبيح كان مظنّة للغفلة عنه.
تفسير حجّة الوداع وغدير خم
وهذه الآية كسابقتها تعريض بالامّة وبكفرهم بعلىّ (ع) وما جاء الرّسول به من عند الله في حقّه وما قاله لهم في حجّة الوداع في مسجد الخيف وغدير خمّ من الوصيّة في حقّه وما أمرهم به من البيعة معه في عشرة مواطن أو ثلاثة مواطن وبصدّهم المسلمين عن البيعة معه والطّاعة له ، ولمّا كان الخطاب في الآيتين الأوليين مع أهل الكتاب امر نبيّه ان يخاطبهم توهينا وتبعيدا لهم عن تشريف الخطاب ولمّا كان الخطاب في الآية الآتية مع المؤمنين خاطبهم بنفسه تشريفا لهم فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) اى أسلموا بالبيعة العامّة النبويّة وقبول الدّعوة الظّاهرة (إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ)