وجه التّعبير عن عرض الجنّة بعرض السّموات والأرض
اعلم انّ العرض والطّول في المسطّحات عبارة عن اقلّ الامتدادين وأكثرهما ، وفي المجسّمات عبارة عن اقصر الامتدادات الثّلاثة وأطولها ، والعرض في الأسطوانات والمخروطيّات عبارة عن امتداد قواعدها والطّول فيها عبارة عن امتداد سهامها ، ولمّا كان عوالم الإمكان مبتدئة من المشيّة الّتى هي الوحدة الحقّة الظّليّة الّتى هي كالنّقطة في عدم تطرّق الكثرة إليها منتهية الى عالم الأجسام الّذى هو لكثرته مثل قاعدة المخروط شبّه العوالم الطوليّة بالمخروط المنتهى من طرف الى النّقطة ومن طرف الى القاعدة ، ولمّا كان عالم الطّبع بكثرته مثل قاعدة المخروط في كثرتها وقد علمت انّ عرض المخروط عبارة عن قطر قاعدته قال تعالى : (عَرْضُهَا) نفس (السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) من غير تخلّل اداة التّشبيه ، ولمّا كان هذه كلّها على طريق تشبيه المعقول بالمحسوس قال في سورة الحديد : (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) بتخلّل اداة التّشبيه.
ثمّ اعلم انّ سعة عالم الطّبع ومكانه ووعاء لسعة العوالم العالية كما انّ زمانه وعاء لا مد بقائها وكما انّ سعة الدّهر الّذى هو أمد بقاء العوالم العالية بالنّسبة الى الزّمان أضعاف الزّمان بألف أو بخمسين ألفا لانّ يوما من الدّهر الّذى وعاءه ومظهره يوم من الزّمان كألف سنة في المرتبة الاولى أو كخمسين الف سنة في المراتب الاخر كذلك سعة وعاء العوالم العالية الّذى هو بمنزلة مكان عالم الطّبع بالنّسبة الى المكان الّذى هو وعاء ومظهر لوعاء العوالم العالية أضعافه بألف أو خمسين ألفا ، وهذه السّعة غير السّعة بحسب الكثرة فلا ينافي تشبيه عالم الطّبع بالقاعدة في الكثرة والعوالم العالية بالنّقطة في الوحدة (أُعِدَّتْ) صفة بعد صفة أو حال بتقدير قد أو مستأنف جوابا لسؤال مقدّر كأنّه قيل ، لمن هذه الجنّة؟ ـ فقال : اعدّت (لِلْمُتَّقِينَ) قد مضى في اوّل سورة البقرة بيان مراتب التّقوى فانّ التّقوى الحقيقيّة هي الّتى تكون بعد الايمان واوّل مراتبها التّقوى عن نسبة شيء من الأموال والأفعال الى نفسه وآخر مراتبها التّقوى عن ذاته بحيث لا يبقى له ذات وانانيّة وهي آخر مراتب العبوديّة واوّل مراتب الرّبوبيّة (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) من الأموال والأبدان والاعراض والقوى والأوصاف والانانيّات (فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) اى في جميع الأحوال لا يمنعهم حال من الأحوال من الإنفاق وهذا بيان للمتّقين وليس تقييدا له كما عرفت (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) الحابسين له ، والأوصاف الثّلاثة بيان لبعض مراتب الإنفاق لانّ كظم الغيظ في الحقيقة إنفاق من سورة القوّة الغضبيّة كما انّ العفو عن النّاس وطهارة القلب عن الحقد عليهم والانزجار من إساءتهم ثمّ الإحسان إليهم بعد إساءتهم إنفاق من سورة كبرياء النّفس وانانيّتها (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) العفو هاهنا بمعنى الصّفح فانّهما كالفقراء والمساكين لانّ كظم الغيظ يعنى العفو وترك الانتقام وقد ذكر فالعفو بمعنى الصّفح الّذى هو تطهير القلب عن الحقد على المسيء.
تحقيق مراتب النّاس في القصاص وتركه
(وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) حقّ العبارة ان يقول والمحسنين لكنّه عدل اليه لافادة القسيم وكونه محبوبا لله بأخصر لفظ ، ولمّا كان الممدوح من هذه الثّلاثة ما كان سجيّة وما كان منها صادرا عن سجيّة أتى بها أسماء بخلاف الإنفاق فانّ المقصود والممدوح منه حدوث الفعل وطرح الفضول ونفع الغير وان كان سجيّته أيضا ممدوحة ولذلك أتى به فعلا دالّا على التّجدّد الاستمرارىّ وقد أشار تعالى بهذه العبارة الوجيزة الى مراتب التّقوى ومنازل السّلوك ؛ فانّ اولى مراتب التّقوى والسّلوك الانزجار عن فضول الدّنيا ومساوي النّفس وهو نحو إنفاق من تشهيّات النّفس ثمّ إنفاق الفضول