الدّعوة الباطنة صار متذكّرا لله على كلّ حال ومتفكّرا في خلق نفسه وفي الفانيات من الأرض والارضىّ والسّماء والسّماوىّ فينظر فيكون نظره عبرة ، ويتكلّم فيكون كلامه حكمة ، ويسكت فيكون سكوته فكرة بقدر مرتبته في الايمان ، فينظر الى آلام الدّنيا مثلا ويعتبر وينتقل الى آلام الآخرة وشدّتها فيستعيذ منها ويتوب الى الله ممّا يجرّها بحسب حاله وان كان لا يقول بلسانه ، ثمّ ينظر الى لبّه ولطيفة ايمانه الّتى هي نازلة ولىّ امره فيستظهر بها ويستغفر لذنوبه الّتى هي حاصلة له من نسبة الصّفات الى نفسه ويسأله تكفير سيّئاته الّتى هي حاصلة له من نسبة الصّفات الى نفسه ، ثمّ يسأله ان يتوفّاه ويأخذ جميع فعليّاته بحيث لا يبقى له نسبة فعليّة الى ذاته ولا نسبة ذاته الى ذاته حتّى يحصل له الفناء التّامّ عن أفعاله وصفاته وذاته ، ثمّ يسأله بلسان غير منسوب اليه البقاء بعد الفناء على نحو بقاء الرّسل بحفظ الوحدة في الكثرة وهذه آخرة مراتب السّالك وهي الرّبوبيّة بعد العبوديّة ، وكلّ ذلك بلسان حاله سواء كان قرينا بلسان القال أو لم يكن وسواء كان باستشعاره أم بغير استشعاره ، فالآية مشيرة الى مراتب السّير لانّ قوله تعالى : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ) الى قوله (فَآمَنَّا) اشارة الى السّير من الخلق الى الحقّ ، وقوله (فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) الى قوله (وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) اشارة الى السّير من الحقّ الى الحقّ بمراتبه من توحيد الأفعال والصّفات والذّات والى السّير في الحقّ ، وقوله : (آتِنا ما وَعَدْتَنا) الى قوله (لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) اشارة الى السّير بالحقّ في الخلق ، ولكون الآية اشارة الى مراتب الإنسان في الكمال كرّر النّداء وكرّر ربّنا بحسب المراتب وتفاوت ظهور الرّبّ وتفاوت حال السّالك وكان المنادي والمنادي في كلّ مرتبة غير المنادي والمنادي في المرتبة السّابقة ولذلك ورد عن النّبىّ (ص) ويل لمن لاكها بين فكيّه ولم يتأمّل ما فيها ، وروى : من حزنه امر فقال خمس مرّات : ربّنا ؛ أنجاه الله ممّا يخاف (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي) اى بانىّ (لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) فأعطاكم من الوقاية والمغفرة والتّكفير والتّوفية والإيتاء بقدر استعدادكم بأعمالكم (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ان كان لا يضيع الله عمل عامل فما بال الرّجال يذكرون في الدّنيا بالمدائح مثل الهجرة وغيرها دون النّساء؟ ـ فقال : بعضكم من بعض فمديحة الرّجال مديحة للنّساء أيضا أو جواب لسؤال مذكور على ما روى انّ امّ سلمة قالت : يا رسول الله (ص) ما بال الرّجال يذكرون في الهجرة دون النّساء؟ ـ ومعنى كون بعضهم من بعض انّ بعضهم ناش من بعض بالتّوالد ، الرّجال ناشون من النّساء ، والنّساء من الرّجال ، أو بعضهم من سنخ بعض ، أو من مادّة بعض ، فلفظة من ابتدائيّة أو تبعيضيّة ، ولم يكتف تعالى شأنه بالجواب الاجمالىّ وأتى بالتّفصيل في الاجابة بطريق عطف التّفصيل على الإجمال فقال : (فَالَّذِينَ هاجَرُوا) من الأوطان الصّوريّة المانعة من اقامة العبادة وإظهار الدّين الى مدينة الرّسول (ص) طلبا للدّين أو للتّمكّن من إظهار الدّين والعبادة ، أو الى بلد اىّ بلد كان يطلب فيه الدّين ، أو يتمكّن فيه من إظهار الدّين ، أو اقامة مراسمه ، أو هاجروا من دار الشّرك الباطنىّ الّتى هي النّفس الامّارة ثمّ اللوّامة لانّ المهاجر الحقيقىّ من هجر السيّئات الّتى أصلها النّفس الامّارة (وَأُخْرِجُوا) الواو بمعنى أو ، أو هو عطف في معنى التّعليل (مِنْ دِيارِهِمْ) الصّوريّة والمعنويّة وهو متنازع فيه لهاجروا واخرجوا (وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي) اى سبيل المدينة أو سبيل الرّسول (ص) ، أو سبيل تحصيل الدّين ، واضافه الى نفسه تشريفا له ، أو المراد من السّبيل نفس الدّين أو الرّسول (ص) أو طريق القلب والولاية فانّها سبيل الله حقيقة (وَقاتَلُوا) بالجهاد الصّورىّ أو بالجهاد المعنوىّ (وَقُتِلُوا) من حيوتهم الحيوانيّة