سورة البقرة
الى عاليها كلام وكتاب بالاعتبارين ، والإنسان بمراتبه العاليّة نظير المراتب العاليّة للعالم ، وامّا بمقامه البشرىّ فنفسه المتكيّف بكيفيّة الحروف بتوسط تقطيعه بمخارج الحروف بسبب عدم ظهور استقلاله ونفسيّته كلاميّته ظاهرة وكتابيّته خفيّته ، ومكتوبه لظهور بينونته واستقلاله كتابيّته ظاهرة وكلاميّته خفيّة ، ونظير هذين عالم الأرواح وعالم الطّبع بالنّسبة الى الله تعالى لاختفاء البينونة هناك وظهورها هاهنا.
(لا رَيْبَ فِيهِ) لا لنفى الجنس أو لنفى الفرد الشّائع على اختلاف القراءتين والرّيب والرّيبة القلق والاضطراب في النّفس عن الانقياد لأمر معلوم أو مظنون أو مشكوك وتبادر معنى الشكّ واستعماله فيه لكونه في الأغلب مع الشّكّ ، ولانّه إذا كان مع العلم والظّن يستعقب الشّكّ كما ورد : لا ترتابوا فتشكّوا ، ولا تشكّوا فتكفروا ، والمراد منه هاهنا معناه الحقيقىّ ، أو الشكّ والضّمير المجرور راجع الى الكتاب أو الى آلم.
اعلم انّ الكتاب هنا كما مرّت الاشارة اليه عبارة عن الحقائق المشهودة له (ص) حين الانسلاخ عن البشريّة والاتّصال بالعوالم العالية المشار إليها بالم أو المأخوذ منها آلم وتفسيره بالقرآن المفتتح بالم أو بعلىّ (ع) أو بما نزل في علىّ (ع) يعنى بالولاية وآثارها أو بالنّبوّة أو الرّسالة وأحكامهما لكون المذكورات نازلة تلك الحقائق وظهورها.
تحقيق انّ الإنسان ما لم يخرج من أسر نفسه لا يدرك من القرآن الّا اللّفظ والعبارة
والإنسان ما لم يخرج من أسر نفسه وهواها ولم يبلغ حدّ التّسليم والاستماع الّذى هو اولى درجات العلم بوجه ، وثانيتها بوجه ، أو حدّ التّحقيق والغنى عن التّقليد مشار إليهما بقوله تعالى (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) لا يمكن له ادراك تلك الحقائق ولا ادراك نازلتها وظهورها فلا يمكن له ادراك القرآن ولا النّبوّات والرّسالات والولايات من حيث انّها ظهور تلك الحقائق ونازلتها ، بل لا يدرك من القرآن الّا الصوت والعبارة أو النّقش والكتابة ولا يتصوّر من معانيه الّا ما هو الموافق لشأنه المناسب لمقامه لا ما هو العناوين الالهيّة للحقائق العالية كما قال تعالى (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) ولا يدرك من خلفاء الله الّا مقامهم البشرىّ ولا من دعاويهم الّا ما هو الموافق لادراكاته الشيطانيّة وشؤنها البهيميّة والسبعيّة لا مقاماتهم العاليّة وأخلاقهم الملكوتيّة وأوصافهم الالهيّة ولهذا نسبوا الأنبياء الى ما نسبوهم فاللّفظ المسموع من القرآن والنّقش المبصر منه ان كان لفظ القرآن ونقشه بان لا يكون المتكلّم بالقرآن متكلّما بلسانه ولم يكن الكاتب كاتبا بيده فالشّيطان يخلّيهما من معانيهما ويجعل فيهما معاني أخر موافقة له حين السّماع والأبصار ؛ وهذا أحد وجوه تحريف الكلم عن مواضعه ، وهؤلاء هم الّذين يقال فيهم : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ) ويسمعونه ويبصرونه بأيديهم وأسماعهم وأبصارهم فويل لهم ممّا كتبت أيديهم وسمعت آذانهم وأبصرت عيونهم و (وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) والشّكّ والارتياب من جنود الجهل والنّفس ، والعلم والانقياد من جنود العقل والقلب ، إذا تمهّد هذا فنقول : من لم يخرج من أسر نفسه لا يدرك الكتاب في مرتبة من مراتبه ، ومن خرج من أسر نفسه لا يقع منه شكّ وارتياب فيما أدرك من الكتاب ، فالشّاكّون في الكتاب شكّهم راجع الى مدركاتهم لا الى الكتاب ، فما وقع فيه الشّكّ غير الكتاب ، وما هو الكتاب لا يقع فيه شكّ وريبة ، فصحّ نفى جنس الرّيب أو جميع افراده من الكتاب من غير حاجة الى ارتكاب تضمين أو تقدير أو تقييد بمعنى لا ينبغي الرّيب بتضمين الابتغاء أو تقديره ، أو لا ريب للعاقل بالتّقدير ، أو للمتّقين بتقييده بالظّرف.