بمعنى البقيّة والقطعة من الشيء ، وقد مضى في اوّل الفاتحة تفصيل لبيان السّورة (مِنْ مِثْلِهِ) من مثل محمّد (ص) أو من مثل ما نزّلنا وهذا أوفق بالتّحدّى وأبلغ في ادّعاء اعجاز القرآن لانّه يدلّ على انّه معجز مطلقا بخلاف الاوّل فانّه يدلّ على اعجازه من مثل محمّد (ص) الّذى لم يقرأ ولم يكتب أصلا واطبق بسائر الآيات المتحدّى بها وأنسب بقوله (وَادْعُوا) اى للاستعانة أو التّصديق (شُهَداءَكُمْ) جمع الشهيد بمعنى الحاضر والمعنى ادعوا من ينبغي ان يحضر للاعانة أو بمعنى النّاصر أو الامام أو بمعنى القائم بالشّهادة المؤدّى لها (مِنْ دُونِ اللهِ) لفظ دون بمعنى المكان الدّانى من الشيء وبمعنى تحت نقيض فوق وبمعنى عند ويستعمل من باب الاتّساع في الرّتبة مثل ، زيد دون عمرو ، يعنى مرتبته تحت مرتبة عمرو ، وبمعنى غير وهو المراد هنا والظرّف مستّقرّ حال من شهدائكم والمعنى ادعوا ناصريكم أو من ينبغي ان يحضر ناديكم لاعانتكم أو ائمّتكم أو من يشهد لكم بالمماثلة لأداء الشّهادة حين الإتيان ، أو للاعانة حين التّرتيب حالكونهم بعضا ممّن هو غير الله.
تحقيق معنى من دون الله
وقد ذكر (١) في بيان من دون الله في بعض تفاسير العامّة مالنا الغناء عن ذكره ولما كان أولياء الله من الأنبياء وأوصيائهم (ع) مظاهر أسماء الله وصفاتهم بل لا يظهر الله الّا بهم كما ورد : بكم عرف الله ؛ جاز ان يراد بقوله (مِنْ دُونِ اللهِ) من دون أولياء الله خصوصا على اجراء الآية الشريفة في منافقي الامّة وقد ذكر انّ المراد من دون أولياء الله (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في ادّعاء الرّيب ، أو في انكار التّوحيد ، أو انكار تنزيل القرآن من السّماء أو في انكار الرّسالة ، وانكار الكتاب المنزل عليه وانّ محمّدا (ص) تقوّله من تلقاء نفسه أو تعلّمه من بشر مثله فانّ العامّة إذا ارتابوا في شيء أنكروه في الأغلب لانّهم ينكرون ما وراء معلومهم فيجوز ان يراد بقوله (إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا) معنى قوله ان أنكرتم ما نزّلنا على عبدنا.
الاشارة الى وجوه اعجاز القرآن
واعلم انّ آيات التحدّى وانّ القرآن لا يمكن الإتيان للبشر بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا كثيرة وقد ورد وشاع في الألسن انّ القرآن هو المعجزة الباقية بعد محمّد (ص) وذكروا في اعجاز القرآن وجوها كثيرة تبلغ بضعة عشر وجها متحيّرين غير قاطعين والتّرديد في وجه اعجاز القرآن دليل على عدم ادراك وجه اعجازه ، وما ورد في الاخبار من انّ اعجازه بفصاحته وبلاغته لا يدركه الّا أهل اللّسان البارع في الفصاحة وقد ورد في الكتاب الكريم انّ فيه تبيان كلّ شيء وهذا وجه لا يدركه الّا أهله ، وكذا ما ورد انّ به تسيير الجبال وتقطيع الأرض وتكليم الموتى ليس الّا لأهله ، وما ورد انّ فيه شفاء ورحمة للمؤمنين لا يدركه الّا الخوّاصّ من المؤمنين ، وأشير في الاخبار الى استنباط الوقايع الآتية من أعداد حروفه ، وأشير أيضا الى ترتّب الآثار على اعداد حروفه ، وهذا أيضا وجه لا يدركه الّا أهل العلوم الغريبة ، ولهذا أنكر بعض اعجاز القرآن وتردّد بعض فيه ، ومن قال به لم يقل عن تحقيق بل محض التّقليد للاسلاف أو للآيات والاخبار ، ومن حقّق اعجازه ببعض الوجوه أو بكلّها قليل جدّا وليس له إظهاره كما لم يظهره الأوائل الّا بالاشارة ، ولمّا كان التحدّى مع أهل لغة العرب وكانوا مباهين بالخطب والاشعار كان التحدّى بفصاحته وقد اعترفوا ببراعته كلّ كلام وخطاب ، ولهذا ورد في اخبار كثيرة انّ التحدّى كان بوجه فصاحته (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) أتى بأداة الشّكّ مع انّه تعالى عالم بعدم الإتيان مراعاة لحال المخاطبين لانّهم في اوّل التحدّى كانوا شاكّين في إمكان المعارضة وعدمه ولذا أتى بجملة معترضة مخبرة عن نفى الإتيان بالنّفى
__________________
(١) قوله : وقد ذكر فانّ الزمخشري والبيضاوىّ ذكرا انّ في من دون الله متعلّق بادعوا أو بشهداءكم والحال انّ الجارّ والمجرور ظرف مستقرّ.