ما في هذا العالم يحصل في جابلسا ثانيا كما كان حاصلا في جابلقا قبل هذا العالم ، وما يحصل في جابلسا يكون مدبرا عن هذا العالم كما انّ ما حصل في جابلقا كان مقبلا على هذا العالم ، ولهذا لم يكن لما في جابلسا ظهور في هذا العالم كما كان ما حصل في جابلقا لا بدّ من ظهوره في هذا العالم ، وامّا البرزخ الّذى هو طريق مشترك بين الملكوت العليا ودار السّعداء والملكوت السّفلى ودار الأشقياء فهو معدود من صقع الملكوت وليس مقام مقرّ حتّى يعدّ مقاما وعالما بنفسه لانّ السّعيد والشّقىّ لا بدّ من سلوكهما عليه الى الأعراف ، والأعراف آخر البرازخ ومنه طريق الى الملكوت العليا وطريق آخر الى الملكوت السّفلى وسمّى الأقدمون البرزخ بهورقوليا وهذه المدينة هي الّتى لها الف الف باب ويدخلها كلّ يوم ما لا يحصى من خلق الله ، ويخرج مثل ذلك ، وهورقوليا وجابلقا وجابلسا غير مجرّدة عن التّقدّر وفوقها عوالم مجرّدة عن التّقدّر أيضا.
واعلم أيضا انّ النّور العرضىّ الّذى به يستضيء السّطوح معرّف بأنّه ظاهر بذاته مظهر لغيره وهذا التّعريف في الحقيقة للوجود وهو اولى به من النّور العرضىّ ؛ فانّ النّور ظاهر للابصار مظهر لغيره على الأبصار لا على سائر المدارك ، وظهوره ليس بذاته وبمهيّته النّوريّة بل بوجوده فالنّور بما هو مهيّة من الماهيّات ليس ظاهرا بنفسه بل هو بما هو وجود ظاهر بنفسه اى بجزئه الّذى هو الوجود لا بالجزء الآخر ولا بالمجموع بخلاف الوجود فانّه بسيط ظاهر بذاته لا بشيء آخر مظهر لغيره الّذى هو المهيّة ايّة مهيّة كانت ومظهر لنقيضه الّذى هو العدم ، وظهوره ليس على مدرك واحد بل هو ظاهر ومظهر لكلّ الأشياء على جميع المدارك فهو أقوى في النّوريّة من النّور العرضىّ ، وكما انّ النّور العرضىّ إذا قابله جسم صلب كثيف غير شفيف ينفذ النّور فيه على استقامته سواء كان صيقليّا كالبلوّر أو غير صيقلىّ كغيره من الأحجار الصّلبة واجتمع النّور فيه وتراكم ظهر منه آثار غير النّوريّة مثل النّار الحاصلة خلف البلوّرة إذا قابلت نور الشّمس والنّار المكمونة في الأحجار الكبريّتيّة وغيرها كذلك النّور الحقيقىّ إذا قابله ما لم ينفذ فيه على الاستقامة كالمادّة القابلة الّتى لا جهة فعليّة فيها سوى القوّة ، وعالم الأجسام الّذى ليس فيه الّا جهة القبول لا الفاعليّة واجتمع الوجودات الضعيفة والكثرات البعيدة من الوحدة حصل من اجتماع الأنوار نار مكمونة فيه أو خلفه وتعلو بتلك النّار نفس مناسبة لها شريرة امّا بعيدة عن الخير ظاهرة النّاريّة نظيرها النّار الظّاهرة خلف البلوّرة البعيدة من الجسم المستنير ، أو قريبة من الخير نظيرها النّار المكمونة في الأحجار ، والقسم الاوّل الشّياطين والقسم الثّانى الجنّة ففي النّور نار مكمونة والنّار نور مكمون أو ظاهر ، فعلى هذا لا حاجة الى تأويل الآيات والاخبار الدّالّة على خلق الشّياطين والجنّة من النّار كما فعلته الفلاسفة ، ولا الى تصحيحها بتجويز خلقها في كرة الدّخان المنافى لكثير من قواعدهم ولكثير من آثار الشّياطين الّتى ذكروها في الشّريعة ، ولا الى انكار وجودهم الّا بالتّأويل ، ولا الى جعلهم نوعا من الملائكة ؛ فانّ الملائكة خلقوا من النّور وهم خلقوا من النّار وان كان لهم نوريّة كنوريّة النّار المختلطة ، وكون آدم مخلوقا من الطّين باعتبار انّ التّراب والماء غالبان في مادّته والّا فمادّته مركّبة من العناصر الاربعة (وَقُلْنا) بعد خلق آدم (ع) وخلق حوّاء لأنسه بها وسجود الملائكة له وإباء إبليس من السّجود.
(يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) الّتى هي من جنان الدّنيا لا من جنان الآخرة الّتى هي للإنسان بعد خلاصه من البنيان العنصرىّ فانّه من دخلها لم يخرج منها وسيأتى الاشارة الى وجه كونها من جنان الدّنيا (وَكُلا مِنْها) رزقكما الخاصّ بكما من أثمار الجنّة وفواكه الأعمال وحبوبها (رَغَداً) رزقا واسعا