اعلم انّ سلوك السّالك لا يتمّ الّا بجناحين ؛ البرائة والولاية ويعبّر عنهما بالتّوبة والانابة ؛ وبالزّكوة والصّلوة ، وبالصّيام والصّلوة ، والتّبرّى والتّولّي ، والنّفى والإثبات ، والنّهى والأمر ، والخوف والرّجاء ، والتّرهيب والتّرغيب ؛ ولذا لم يكن شريعة من لدن آدم (ع) الّا وفيها زكوة وصلوة وكان الكلمة الجامعة بين النّفى والإثبات أشرف الاذكار ، وكان أشرف الكلّ لا اله الّا الله لاعتبارات ليست في غيرها كما سنذكره ان شاء الله في بيان قوله : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) في هذه السّورة ، وإذا عدّى التّوبة ب إلى كانت مشعرة بالجمع بين التّوبة والانابة ، وإذا نسبت الى العبد عدّيت ب إلى للدّلالة على الانتهاء ، وإذا نسبت الى الله عدّيت بعلى للدّلالة على الاستعلاء والاستيلاء.
تحقيق توبة الربّ في توبة العبد
(إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ) كثير التّوبة منحصرة فيه لانّ توبة العبد كسائر خصاله اظلال صفات الحقّ فانّ توبة العبد ظلّ لتوبة الرّبّ بل هي توبة الرّبّ في مقام شأنه النّازل فلا تائب الّا هو ، ونسبتها الى العبد محض اعتبار ففي توبة العبد تكرار ظهور لتوبة الرّبّ فانّه ما لم يظهر توبة الله في شؤنه العالية لم تظهر في مظهره النّازل فهو تعالى كثير التّوبة باعتبار كثرة ظهورها ولا توّاب سواه باعتبار انّ توبة العبد توبته (الرَّحِيمُ) لا رحيم سواه كحصر التّوبة وافاضة الرّحمة الرّحيميّة على العبد بعد توبة الرّبّ في توبة العبد كاللّازم الغير المنفكّ منها ولذا عقّبها بها (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً) ووجه التّأكيد والتّكرير التّغليظ والتّطويل المطلوب في مقام السّخط والتمهيد للوعد والوعيد الآتي وجميعا حال في معنى التّأكيد كأنّه قال أجمعين ولا دلالة له على الاجتماع في زمان الحكم بل له الدّلالة على عموم الحكم بجملة افراد المحكوم عليه فقط بخلاف مجتمعين فانّه يدلّ على الاتّفاق في زمان الحكم (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) امّا ان الشّرطيّة وما الزّائدة لتأكيد الشّرط ولذا يؤتى بعده بنون التّأكيد ، وإتيان الهدى من الله امّا على لسان الرّسول الظّاهرىّ أو الباطنىّ هذا على ظاهر المفهوم المصدرىّ من الهدى والّا فالهدى حقيقة جوهريّة من شؤن النّفس الانسانيّة ولسان الرّسول الظّاهرىّ أو الباطنىّ معدّ للنّفس ، والمفيض في الحقيقة هو الله ، والمفاض حقيقة من الحقائق ، والمفاض عليه هو النّفس الانسانيّة ، وعلى هذا فالإتيان بأداة الشّكّ في محلّه لانّ تلك الحقيقة لا تحصل لكلّ فرد من الإفراد ، وكثيرا ما تحصل لشخص ثمّ تسلب عنه ولذا أتى بالجواب جملة شرطيّة أو كالشّرطيّة فقال (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) لفظة من شرطيّة أو موصولة متضمّنة لمعنى الشّرط وتكرار الهدى للتّمكين في القلوب وللتّرغيب في الاتّباع بتصوير مفهومه الصّريح ؛ ولتعليل الحكم بذلك ، ويجوز ان يراد بالهدى الرّسول أو خليفته فانّه لكونه متشأنا بالهدى فكأنّه لا حقيقة له سوى الهدى ، أو يراد معنى أعمّ من الثّلاثة اى فامّا يأتينّكم منّى سبب هداية أو حقيقة هداية أو هاد ؛ فمن تبع هداي (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).
تحقيق بيان اختلاف الفقرتين من قوله (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)
الخوف حالة حاصلة من الاستشعار بورود مكروه وتوقّع وروده ويستلزمها انقباض القلب واجتماع الرّوح الحيوانيّة والحرارة الغريزيّة في الباطن والقلب واحتراق دم القلب وتصاعد بخار دخانىّ الى الدّماغ واحتراق الدّماغ وتولّد السّوداء والماليخوليا ان طالت مدّتها ، ولمّا كان الخوف واردا من المخوف منه على الخائف كأنّ المخوف منه فاعله والخائف واقع عليه الخوف أخبر عنه بالجارّ والمجرور بعلى مع انّ القياس