الحصر عقيب هذه الآية وتعقيبه بكونه جزاء لبغيهم للمنّ على أمّة محمّد (ص) ولتهديدهم يؤيّد الاشكال بلزوم حلّيّة ذبيحة كلّ نوع من الحيوان (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا) اى ما تعلّق بالأمعاء (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ) التّحريم (جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) في الاخبار (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ) لانّه لا مانع له من إنفاذه (عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) جمع بين شأنى اللّطف والقهر والارجاء والتّخويف والوعد والوعيد تعليما لمحمّد (ص) وأوصيائه (ع) طريق الدّعوة وتكميلا له فيها وتثبيتا له في الدّعوة بين جهتي الرّضا والسّخط ، فانّه لا يتمّ الدّعوة الّا بهما ، فالمعنى فان كذّبوك فلا تخرج عن التّوسّط وعدهم رحمة الرّبّ بإضافة الرّبّ إليهم إظهارا للّطف بهم وقل ربّكم ذو رحمة واسعة فيرحمكم ولا يؤاخذكم بجهالاتكم ، ولكن إذا أراد مؤاخذتكم فلا رادّ لمؤاخذته فاحذروها (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) لرفع القبح عن اشراكهم بل لتحسينه بعد ان عجزوا عن الحجّة (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) كما هو ديدن النّفس والمرأة الفاحشة فانّهما لا ترضيان بنسبة السّوء الى أنفسهما بل تحسّنان القبيح بما أمكن ، فاذا عجزتا عن ذلك تنسبانه بالتّسبيب الى غيرهما من الشّيطان والقرين ومشيّة الله وهو كذب محض ، فانّ الشّيطان والقرين ليس لهما الّا الاعداد ، والمشيّة وان كانت فاعلة أو سببا للفعل لكنّ الفاعل ما دام يرى نفسه في البين ليس له نسبة الفعل الى المشيّة أو تعليقه عليها ولو نسب لا ينبغي الغفلة عن استعداد القابل وبهذا يرتفع التناقض المترائى بين تكذيبهم في قولهم هذا وبين تعليق ذلك على المشيّة في قوله ولو شاء الله لهديكم (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) اى مثل تكذيبهم ايّاك بتعليق الإشراك والتّحريم على المشيّة دون نسبة الى أنفسهم كذّب الّذين من قبلهم أنبياءهم (ع) (حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا) يعنى ليس عندكم برهان على دعويكم يمكنكم الاحتجاج به على الغير ، واطلاق العلم على البرهان من قبيل اطلاق المسبّب على السّبب ، أو لانّ البرهان هو العلم الّذى يحصل به علم أخر ولمّا كان البرهان هو الّذى يمكن أعلام الغير به قال فتخرجوه لنا فنفى بهذا عنهم البرهان وبقوله (إِنْ تَتَّبِعُونَ) (الى آخره) نفى علمهم مطلقا ، يعنى لا برهان لكم ولا شهود ولا سماع عن صادق أو وحي وبقوله (قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ) نفى صحّة تقليدهم لانّ التحدّى بمثل هذا يدلّ على عدم شاهد لهم يصحّ الاعتماد عليه (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) يعنى لا علم لكم في أنفسكم بمدّعاكم كما لا برهان لكم لا علام غيركم ، ذمّهم اوّلا على اتّباع الظّنّ في أعمالهم ، وثانيا على انّ شأنهم الخرص والتّخمين لا العلم واليقين ، والعاقل لا يقف على الظّنّ والتّخمين بل يتعمّل في تحصيل العلم واليقين وما لم يحصل اليقين يقف عن العمل الّا إذا اضطرّ فيحتاط لا انّه يتّبع الظّنّ فيعمل ويفتي بظنّه من غير اذن واجازة ولا يحصل اليقين الّا بالبيان والبرهان ، أو بإدراك مدارك الحيوان ، أو بالوحي والعيان ، أو بتقليد صاحب الوحي وخليفة الرّحمن ، فمن ظنّ انّ الظّنّ مطلقا والاستحسان طريق حكم الله أو المخطئ له أجر والمصيب له أجران فقد أخطأ طريق الجنان وسلك طريق النّيران فمن فسّر القرآن برأيه واحكام الله نزول القرآن فليتبوّأ مقعده من النّيران ، وامّا الخاصّة فظنونهم قائمة مقام العلم بل نقول ظنونهم أشرف وأعلى من العلم فقد حقّقنا سابقا انّ اجازة المجيز إذا كانت الاجازة الصّحيحة بلغت الى المجاز تجعل ظنّ المجاز أشرف من علم غيره لانّ العلم بدون الاجازة