في مقام اشتداد الغضب وتنزيل ضرب البنان واضح وتأويله عبارة عن ضرب بنان نفوسهم الخبيثة الّتى بها يثلمون دين الإسلام وعقائد ضعفاء المسلمين (ذلِكَ) التّشديد الشّديد عليهم (بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ذلِكُمْ) ايّها الكافرون فهو التفات وهو من باب الاشتغال وتخلّل الفاء بتقدير امّا أو توهّمها وهو مبتدء محذوف الخبر اى ذلكم لكم أو مفعول فعل محذوف اى خذوا ذلكم أو هو اسم فعل بمعنى خذوا لغلبة استعماله بعد حذف الفعل في هذا المعنى (فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) شأن نزول الآية وقصّة بدر مذكور في الاخبار ويكفى منها للاطّلاع عليها ما في الصّافى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً) كثيرا ، والزّحف العسكر لانّهم يزحفون اى يدبّون (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ) يوم إذ لقيتم الّذين كفروا زحفا (دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) طالبا حرفا من محلّ القتال للتّمكّن من المقاتلة أو للاحتيال مع العدوّ ليتخيّل انّه انهزم ليكيد بالعدوّ (أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) للاستغاثة بهم (فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) هذه احدى الكبائر الّتى توعد عليها النّار وهو المسمّى بالفرار من الزّحف ، ولمّا ذكّر المؤمنين نصرة الملائكة ومعيّته تعالى للملائكة وامره لهم بالضّرب فوق الأعناق وضرب كلّ بنان وتوهّم انّ المؤمنين لا دخل لهم في القتال وفرارهم وثباتهم ومجاهدتهم وقعودهم متساوية استدرك ذلك التّوهّم ، بانّ فعل الملائكة لا يظهر الّا بالمظاهر البشريّة فأنتم وان لم تكونوا فاعلين حقيقة لكنّكم مظاهر فعل الملائكة فاذا لقيتم الّذين كفروا فلا تولّوهم الأدبار حتّى يجرى قدر الله وفعل الملائكة بتوسّطكم ثمّ اثبت مقتضى نصره بالملائكة وامره ايّاهم بالقتل والضّرب فقال : إذا كان القتل بالملائكة والنّصرة بهم «ف» أنتم (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) ثمّ صرف الخطاب الى نبيّه (ص) وقال (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) اعلم ، انّ حقّ هذه العبارة الّتى هي في مقام قصر القلب أو الإفراد ان يقال : فأنتم لم تقتلوهم ولكنّ الله قتلهم وما أنت رميت ولكنّ الله رمى ، ثمّ حقّ القرينتين ان تكونا متوافقتين وقد اختلفتا في اداة النّفى وذكر المفعول وحذفه ومضىّ الفعل ومضارعته وإثباته لمن نفى عنه وعدمه ؛ والوجه في ذلك انّ الإنسان له وجهة الهيّة بها فاعليّته ووجهة نفسيّة بها ينسب الأفعال الى نفسه وقد يرتفع عنه بالرّياضات والمجاهدات إذا كان سالكا الى الله وجهته النّفسيّة بحيث لا يرى من نفسه أثرا في البين ولا يرى في الوجود الّا الله ووجهته ، فحينئذ يصحّ سلب الأفعال عنه حقيقة وفي نظره أيضا لانّه لا يرى لنفسه وجودا ولا أثرا ، ويسمّى هذا المقام في اصطلاحهم مقام الفناء ، فاذا صحا من فنائه وغشوته صار باقيا بالله لا بنفسه يعنى يرى للوجود مراتب ولكن لا يرى للحدود وجودا فيرى وجوده مرتبة من وجود الله لا مباينا لوجود الله ، فحينئذ يرى لمرتبة نفسه وجودا هو وجود الله في تلك المرتبة وهو المسمّى بالبقاء بالله ، فيصحّ منه نسبة الوجود الى نفسه ونسبة اثر الوجود إليها حسب استشعاره لمراتب الوجود لكن نسبة اثر الوجود حينئذ غير النّسبة الّتى كانت قبل الفناء ، وان لم يصح من فنائه فلم يكن نسبة للفعل اليه في نظره لانّه لا يرى في الوجود الّا الله ولا يرى الفعل الّا من الله ، وقد يذهل عن وجهته النّفسيّة بأسباب خارجة وعوارض طارية كغلبة الخوف والغضب والفرح وغير ذلك ، وحينئذ لا يستشعر بنفسه ولا بفعل نفسه ولا يصحّ نسبة الفعل اليه في نظره كمن يرى في حال اشتغاله من كان في مقابله ولا يستشعر برؤيته بل ينفى الرّؤية عن نفسه ؛ إذا تقرّر هذا فنقول : انّ المؤمنين في حال القتال ذهلوا عن أنفسهم لغلبة الدّهشة عليهم بحيث لم يستشعروا