على صورة الإنسان لم يكن صادرا عن الانسانيّة ، بل عن البهيميّة أو السبعيّة أو الشّيطانيّة كان الفعل كذبا وفاعله كاذبا وهكذا الحال في الأخلاق والأحوال ، ويجرى أيضا هذا الاعتبار في الأقوال والعلوم فانّها ان كانت صادرة عن الانسانيّة وراجعة الى استكمالها فهي صادقة بهذا الاعتبار ، وان لم يكن كذلك فهي كاذبة وان كانت صادقة باعتبارها في أنفسها ، والمعتبر عند أهل الله في الصّدق والكذب في الأقوال والعلوم هو اعتبار المبدء والمرجع دون الواقع فقط ، ولذا ورد عنهم (ع): من فسّر القرآن برأيه يعنى بحيثيّة شيطانيّته لا بحيثيّة انسانيّته وأصاب الحقّ فقد أخطأ ، وورد نفى العلم عمّن لم يكن عمله متوجّها الى حيثيّة انسانيّته وآخرته من غير اعتبار مطابقته وعدم مطابقته كما قال تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ، وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ، فقد نفى العلم عنهم مع إثباته لهم مطابقا لما في نفس الأمر حيث كان الواقع كما علموا ، لكن لمّا لم يكن علمهم متوجّها الى جهة استكمال الانسانيّة نفاه عنهم واثبت الجهل لهم بنفي العلم عنهم ، إذا تقرّر هذا فاعلم ، انّ الإنسان له مراتب ولكلّ مرتبة منها درجات فهو ما دام في مرتبة نفسه فاذا كان في درجة النّفس الامّارة فكلّ ما يصدر عنه فهو كذب ، وإذا ترقّى من هذه الدّرجة ووقع في درجة النّفس اللّوامة فقد يكون ما يصدر عنه صادقا وقد يكون كاذبا ، وإذا ترقّى الى درجة النّفس المطمئنّة ولا يكون هذا التّرقّى الّا إذا تمكّن في مرتبة القلب فكلّ ما يصدر عنه يكون صادقا ، فالمنافق الواقع في درجة النّفس الامّارة لا يكون منه الّا الكذب ويصير الكذب سجيّة له ولذلك أتى بالماضي في قوله بما أخلفوا الله وبالمضارع الدّالّ على الاستمرار التّجدّدىّ في الكذب مع تخلّل كان الدّالّ على انّ مدخوله صار سجيّة (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ) خفايا أمورهم من خطراتهم وخيالاتهم وأخلاقهم وأحوالهم (وَنَجْواهُمْ) ما يظهر على ألسنتهم بحيث يخفى على غيرهم ، أو المراد بالسّرّ الأخلاق والأحوال الموجودة ومكمونات النّفس الّتى لم توجد بالفعل بعد وبالنّجوى ما ظهر على اللّسان بطريق الخفيّة وما ظهر على النّفوس من الخطرات والخيالات شيطانيّة كانت أو رحمانيّة ، والاستفهام للتّوبيخ والتّقريع (وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) من ذكر العامّ بعد الخاصّ تحقيقا للخاصّ وتأكيدا له (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ) يعيبون (الْمُطَّوِّعِينَ) المعطين للصّدقات المستحبّة أو المعطين للصّدقات مطلقا المبالغين المعتنين بها (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ) متعلّق بيلمزون أو بالمطّوّعين أو بهما على سبيل التّنازع وهو امّا خبر مبتدء محذوف ، أو مبتدء خبر محذوف ، أو مبتدء خبره فيسخرون أو سخر الله منهم أو قوله استغفر لهم أو قوله ان تستغفر لهم (الآية) أو بدل من قوله من عاهد الله وقوله تعالى الم يعلموا (الى آخر الآية) معترضة (وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) الّا قدر تعبهم في التّحصيل والطّلب فيتصدّقون بما يتعبون أنفسهم في تحصيله ، وقد ذكر في نزوله انّ سالم بن عمير الأنصاري جاء بصاع من تمر فقال : يا رسول الله (ص) كنت أجرت نفسي ليلتي بصاعين من تمر فجئت بصاع إليك وتركت صاعا لعيالي ، وذكر في نزوله أيضا انّ عليّا آجر نفسه فأتى بأجرته الى النّبىّ (ص) فلمزه المنافقون (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) استعمال السّخريّة في الحقّ تعالى من باب المشاكلة اللّفظيّة والمشابهة المعنويّة وهي امّا دعائيّة فيكون عطف قوله (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) لكونه أيضا دعائيّا أو باعتبار الاخبار اللّازم لذلك الدّعاء كأنّه قال لهم سخط الله ولهم عذاب اليم ، أو خبريّة فلا إشكال في العطف