يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) عن اتّباعه واعتقاد رسالته وقيل : همّ قوم منهم ان ينصرفوا بعد الخروج بدون اذنه فعصمهم الله ، وروى انّ عدد العسكر في تلك الغزوة بلغ خمسة وعشرين ألفا سوى العبيد والاتباع ، وقيل : بلغ عدد جميعهم أربعين ألفا (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) بعصمتهم عن الزّيغ (إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) الفرق بين الرّأفة والرّحمة كالفرق بين الأحوال والسّجايا فانّ الرّأفة عبارة عمّا يظهر من آثار الرّحمة من النّصح والحمل على الخير (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) استعمال الخوالف في النّساء والمخلّف في الرّجال للاشارة الى انّ التّخلّف شأنهنّ فتخلّفهنّ لا تعمّل فيه ، وامّا الرّجال فانّ شأنهم التّهييج للقتال وتخلّفهم كأنّه كان بتعمّل وقبول من غيرهم ، ولمّا فهم العامّة من ظاهره انّ رسول الله (ص) خلّفهم أنكر المعصومون (ع) قراءة خلّفوا وقرءوا خالفوا والّا فقد سبق استعمال المخلّف في المتخلّفين المخالفين عند قوله فرح المخلّفون والمعنى فرح الّذين حملهم الشّيطان على التّخلّف لا الرّسول (ص) ، والثّلاثة المخلّفون كانوا كعب بن مالك ومرارة بن الرّبيع وهلال بن أميّة كانوا تخلّفوا عن غزوة تبوك واستقبلوا رسول الله (ص) بعد مراجعته ، فسلّموا عليه فلم يردّ عليهم الجواب وأمر أصحابه ان لا يسلّموا عليهم ولا يكلّموهم ولا يبايعوهم ولا يجالسوهم ، فدخلوا المدينة ولا يكلّم معهم أحد ، ودخلوا المسجد فلا يسلّم عليهم أحد ، وجاءت نساؤهم الى رسول الله (ص) وقالت : بلغنا سخطك على أزواجنا ؛ أنعتزلهم؟ ـ فقال : لا تعتزلنهم ولكن لا يقاربو كنّ ، فلمّا رأوا ما حلّ بهم قالوا : ما يقعدنا بالمدينة فخرجوا الى الجبال وقالوا : لا نزال في هذه الجبال حتّى يتوب الله علينا ، وكان أهلوهم يأتونهم بالطّعام فيضعونه عندهم ولا يكلّمونهم فلمّا طال عليهم الأمر قال بعضهم : يا قوم سخط الله علينا ورسوله وإخواننا وأهلونا فلا يكلّمنا أحد فما لنا نجتمع ولا يسخط بعضنا بعضا ، فتفرّقوا وحلفوا ان لا يتكلّم أحد منهم أحدا حتّى يموتوا أو يتوب الله عليهم ، فبقوا على هذه الحال فأنزل الله توبتهم على رسوله حين اشتدّ الأمر عليهم (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) بعدم تكلّم رسول الله (ص) ولا أصحابه ولا أهليهم (وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) بعدم اجتماعهم وعدم تكلّم بعضهم بعضا (وَظَنُّوا) اى علموا وأيقنوا واطلاق الظّنّ على العلم لما مرّ مرارا انّ علوم النّفس ان كانت يقينيّات فهي ظنون لتوجّهها الى السّفل وتخلّف المعلوم وغاياتها عنها بخلاف علوم العقل فانّ معلوماتها ثابتة وغاياتها غير متخلّفة ، وهؤلاء لمّا كانوا قبل قبول توبتهم واقعين في مرتبة النّفس كانت علومهم ظنونا (أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) رجع بالرّحمة والتّوفيق عليهم (لِيَتُوبُوا) صادقين الى الله فيقبل توبتهم (إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ) كثير المراجعة على العباد بالرّحمة والتّوفيق سهل القبول لتوبتهم (الرَّحِيمُ) فلا يدعهم لرحمته ان يدوموا على العصيان (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بعد ما ذمّ المتخلّفين عن رسول الله (ص) رغّب المؤمنين في طاعته وعدم التّخلّف عنه ليكون أوقع ولان يجمع بين الوعد والوعيد كما هو شأن النّاصح الحكيم (اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) اعلم ، انّ الايمان قد يطلق على الإسلام الحاصل بالبيعة العامّة وقبول الدّعوة الظّاهرة وانقياد النّفس والقالب تحت احكام القالب المأخوذة من نبىّ (ع) أو خليفته (ع) ، وقد يطلق على الايمان الخاصّ الحاصل بالبيعة الخاصّة الولويّة وقبول الدّعوة الباطنة وانقياد القلب تحت احكام القلب المأخوذة من صاحب أحكام القلب وهو الايمان حقيقة لصحّة سلب