مثل ما يرى من أهل الحقّ من التّجاوز عن الحدّ وصورة الظّلم والعدول عن الحقّ تقيّة والاستطالة والكذب في موقعه والاختيال في محلّه وطلب الدّنيا بأمر الرّبّ (يا أَيُّهَا النَّاسُ) بعد ما ذمّهم بالنّكث والبغي توجّه إليهم بالنّداء وذكر انّ وبال بغيهم راجع عليهم ليكون أردع (إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) لا يتعدّاها في الحقيقة الى غيركم فانّ الإنسان ما لم يفسد قوى نفسه بصدّها عن مطاوعة العقل لا يفسد غيره ، وإفساده غيره وان كان إفسادا له ظاهرا لكنّه إصلاح له حقيقة ، فيبقى البغي إفسادا لنفس الباغي فقط وعلى هذا فعلى أنفسكم خبر عن بغيكم ويحتمل وجوها من الاعراب وهي كون بغيكم بمعنى أو بتضمين معنى يقتضي التّعلّق بعلى وكون الجارّ متعلّقا به و (مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) بالرّفع خبرا عنه أو على أنفسكم خبرا ومتاع الحيوة الدّنيا خبرا بعد خبر ، أو خبر مبتدء محذوف حالا من المستتر في الظّرف أو مستأنفا ، وعلى قراءة نصب متاع الحيوة الدّنيا فالخبر هو الظّرف ومتاع الحيوة الدّنيا نائب عن مصدر بغيكم ، أو مصدر لفعل محذوف حالا أو مستأنفا ، أو منصوب على الّذمّ اى اذمّ متاع الحيوة الدّنيا ، وعلى قراءة نصب المتاع يحتمل كونه مفعولا لبغيكم أيضا ، ويحتمل وجوها أخر بعيدة مثل كون الظّرف لغوا ومتاع الحيوة الدّنيا بالرّفع أو بالنّصب بوجوه كونه غير خبر والخبر محذوفا مثل محذور أو ثقل ووبال (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا) جواب سؤال ناش عن ذمّ متاع الحيوة الدّنيا (كَماءٍ) كمثل ماه (أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) اختلاط النّباتات كثرتها وتداخل أنواعها المختلفة بعضها خلال بعض (مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها) ألوان نباتها فانّ زخرف الأرض ألوان نباتها (وَازَّيَّنَتْ) تزيّنت بأصناف النّبات وأزهارها واخضراها واختلاف ألوان رياحينها وأشكالها واختلاطها بحيث يعجب النّاظر إليها (وَظَنَّ أَهْلُها) أهل الأرض أو أهل الزّخرف فانّه باعتبار معناه الّذى هو ألوان النّبات إذا أضيف الى الأرض يجوز إرجاع ضمير المؤنّث اليه (أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) على الأرض بإنباتها وانماء نباتها وابقائه الى ان انتفعوا به أو على الزّخرف بإنباتها وانمائها وابقائها وذلك لكمال غفلتهم واغترارهم بتدبيرهم (أَتاها) أتى الأرض أو الزّخرف (أَمْرُنا) بإهلاكها واستيصالها بالعاهات والآفات (لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها) اى الزّخرف (حَصِيداً) محصودة والفعيل بمعنى المفعول يستوي فيه المذكّر والمؤنّث وهو في اللّغة اسم لما حصده الإنسان بالحديد لكنّه صار مثلا في كلّ ما استوصل بحيث لم يبق منه شيء (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ) لم تقم أو لم تكن (بِالْأَمْسِ) يعنى قبل ذلك الزّمان فهو أيضا صار مثلا في الزّمان القريب ، اعلم ، انّ هذه التّمثيل من أحسن اقسامه لتطابق جميع أجزاء الممثّل به والممثّل له في التّشبيه حيث انّ النّفس الانسانيّة النّازلة من سماء الأرواح كالماء النّازل من السّماء الدّنيا وبدن الإنسان كالأرض في استقرار النّفس والماء وقواه كنبات الأرض في اختلاف أنواعها واغترار الإنسان بقوّة قواه واشتدادها كاغترار أهل الأرض بزخرفها واستيصال قوى الإنسان بالأجل كاستيصال أصناف النّبات بالآفة (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) آيات العالم الكبير والعالم الصّغير (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) يستعملون قوّتهم المتصرّفة في معلوماتهم بالضّمّ والتّفريق الّتى تسمّى باعتبار استخدام العاقلة