القرآنيّة (لَعَلَّكُمْ) بتدبير الأمر على ما اقتضته الحكمة من غير نقص وفتور فيه ، وبتفصيل الآيات الدّالّة على كمال قدرة صانعها وتكثيرها تعلمون انّ لها صانعا عليما حكيما قديرا ترجعون اليه وبعد ذلك العلم (بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) فيكون عملكم على ما يرتضيه لا على ما يسخطه (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) بسطها لتسهيل توليد النّبات والحيوان فيها وتعيّشها على أكمل وجه (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) جبالا ثوابت لتسهيل إخراج الماء من تحتها وإجرائها على وجه الأرض لسقي الزّروع والأشجار ولذلك ضمّ الأنهار الى الجبال فقال (وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) فائدة التّأكيد بالاثنين الاشعار بانّ الاهتمام بالعدد لا بالجنس فقط والمراد بالاثنين الحاصل في الجبال والجزائر من دون تربية مربّ ، والمغروس والمزروع في البساتين والمزارع بتربية الإنسان كما في قوله ثمانية أزواج من الضّأن اثنين الآية (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) يستره ويحيط به (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور (لَآياتٍ) عديدة (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) باستعمال عقولهم في المبادى واستنباط الغايات منها وترتيب الحكم والمصالح عليها ، ولمّا كان في رفع السّماوات وجعل الأرض وسطها وتسخير الشّمس والقمر في جريهما وفي تدبير الأمر وتعليقه بكلّ على حسب حاله ، وفي مدّ الأرض وجعل الرّواسى والأنهار والأشجار والاثمار واللّيل والنّهار مصالح لا تحصى وحكم لا تضبط وآيات لا تعدّ والانتقال إليها يحتاج الى استعمال المتخيّلة باستخدام العقل والانتقال من المبادى إليها خصّصها بالمتفكّرين بخلاف ما بعده ، فانّ كثرتها ليست بهذه المثابة ولذا اكتفى فيه بمحض العقل (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) متلاصقات مختلفات في الأثر والزّرع (وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ) نخلات من أصل واحد (وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) في الثّمر والحبوب من حيث المقدار والشّكل واللّون والطّعم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) دالّة على علمه وقدرته وكمال حكمته وعلى انّ الاناسىّ وان كانوا من أصل واحد قد يختلفون في الآثار والأعمال والأخلاق (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَإِنْ تَعْجَبْ) يا محمّد (ص) من إنكارهم المعاد مع ظهور دلائله ، أو ان تعجب ايّها المنكر للمعاد والأحياء بعد الاماتة ، أو الخطاب عامّ لكلّ من يتأتّى منه الخطاب (فَعَجَبٌ) تعجّبهم عن الاعادة و (قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)
اعلم ، انّ الإنسان كالعالم الكبير ذو مراتب كثيرة بعضها بالإمكان وبعضها بالفعل فمرتبة منه البدن الجسمانىّ ، ومرتبة منه النّفس النّباتيّة ، ومرتبة منه النّفس الحيوانيّة ، ومرتبة منه النّفس الانسانيّة ، ومرتبة القلب ، ومرتبة الرّوح ، وهكذا الى ما لا خبر عنه ولا اسم ولا رسم وأكثر النّاس لمّا لم يتجاوزوا المدارك الحيوانيّة ولم يشاهدوا بالشّعور التّركيبىّ المراتب المجرّدة من الإنسان بل حصروه فيما شاهدوا منه من مرتبته الجسمانيّة وفعليّته الطّبيعيّة وشاهدوا انّ الموت يفنى تلك المرتبة ويفسدها ، ولم يعلموا انّ انسانيّة البدن انّما كانت عرضيّة بعرض تعلّق النّفس الانسانيّة به وانّه حجاب للانسانيّة مانع عن ظهورها وفعليّتها ولولاه لا نجلت كمال الانجلاء قالوا متعجّبين : أئذا متنا! بنسبة الموت الى أنفسهم باعتبار موت البدن وكنّا ترابا! بنسبة التّرابية والفساد الى أنفسهم بترابيّة البدن وفساده أئنّا لفي خلق جديد؟! ولو انّهم علموا انّ البدن مرتبة نازلة من الإنسان بل حجاب وقيد له وانّ الإنسان حقيقة مجرّدة منزّهة عن الفساد باقية دائمة لما قالوا ذلك (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) وقدرته وسعته