الدّاعى لله بلا معارض فيدعو الله بمقتضى جبلّته (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ) من الغرق والبحر (إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ) لانّ الشّيطان يعود والخيال يتصرّف ويعارض الّا من دخل في كنف أمان الله من شرّ الشّيطان وجعل خياله وقواه مسلّمة للعقل منقادة له (وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) لانّ في جبلّته النّفس الّتى لا شأن لها الّا كفران النّعم وهو عطف في معنى التّعليل (أَفَأَمِنْتُمْ) اى ان نجّاكم الى البرّ فأمنتم أو أنجوتم من البحر فأمنتم (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ) ان يغرقكم في جانب البرّ فانّه قادر على ذلك وان كان خارجا عن العادة ، وذكر الجانب للاشعار الى التّبادر الى الكفران بمحض الوصول الى السّاحل (أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) راميا للحصاة عليكم فانّه قادر عليه أيضا وان كان وقوعه نادرا (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً) كما كنتم لا تجدون في البحر وقت الضّرّ (أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى) بتسلّط الحرص عليكم حتّى ينسيكم ضرّ البحر (فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً) يقصف اى يكسر كلّ ما هبّ عليه (مِنَ الرِّيحِ) فتكسر سفينتكم (فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ) بكفرانكم نعمة الإنجاء اوّلا (ثُمَّ لا تَجِدُوا) من مدعوّيكم (لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ) اى في الإرسال والإغراق (تَبِيعاً) يتبعنا للانتصار والإنجاء (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) بحسب ذواتهم لانّا خلقناهم على صورتنا ولا كرامة فوقه فجعلناهم ذوي سعة ومراتب في الوجود وأعطيناهم الاحاطة قوّة أو فعلا بكلّ الأشياء ، وجعلنا كلّا منهم حيّا عالما سميعا بصيرا مدركا متكلّما مريدا إذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون بالنّسبة الى مخلوقاته الذّهنيّة وآلاته وقواه النّفسيّة أو بالنّسبة الى جميع الموجودات حين استكماله بقوّة المتابعة (وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ) على الحمير والبغال والخيل والجمال وغير ذلك من الدّوابّ وعلى القدرة والمراكب الملكوتيّة إذا صاروا أهلا له وهذا كرامة اخرى خارجة عن ذاته (وَالْبَحْرِ) على السّفن وعلى القدرة والمراكب الملكوتيّة إذا صاروا أهلا له (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) طيّبات أرزاق النّبات والحيوان والإنسان (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) من موجودات عالم الطّبع تماما ومن موجودات الملكوت السّفلىّ ومن بعض أصناف الملائكة ، وامّا المقرّبون والاوساط من الملائكة فهم أفضل من بنى آدم ما لم يخرجوا من القوّة الى الفعل ، فاذا خرجوا صاروا حينئذ أفضل المخلوقات تماما مثل نبيّنا (ص) ؛ فانّ له مع الله وقتا لا يسعه ملك مقرّب ولا نبىّ مرسل ، وتفصيل التّفضيل ومراتبه ودقائقه قد مضى ، ويمكن ان يقال : انّ اضافة بنى آدم الى آدم تدلّ على انّ المراد من لم يخرج بعد من القوّة الى الفعل من جميع الجهات فيصحّ حينئذ تفضيلهم على الكثير لا على الكلّ (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) الامام من يؤتمّ به ويقتدى بسيرته ويؤتمر بامره ويتّبع اثره سواء كان حقّا أم باطلا ، مشهودا بالحواسّ البشريّة أم غير مشهود ، آمرا بحسب الظّاهر أو بحسب الباطن ، بلسان القال أو بلسان الحال ، فيشمل ائمّة الحقّ والجور ممّن ترأّس في الدّنيا أو انتحل التّرأّس في الدّين أو جعلوه رئيسا من غير شعوره بذلك من السّلاطين والأمراء وخلفاء الجور والكواكب والأصنام والابالسة والأهواء ، وفي الاخبار اشعار بالتّعميم وان كان بعض الاخبار يفسّر الامام بإمام حقّ في كلّ زمان (فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ).
اعلم ، انّ للنّفس الانسانيّة صفحتين سفليّة وعلويّة ؛ والسّفليّة بأيدى الشّياطين والعلويّة بأيدى الملائكة ، فان كان عمل العبد من جهة الايتمام بإمام حقّ كان مصدره جهتها العلويّة بامداد الملائكة وكان نزول صورة ذلك العمل من تلك الجهة الى الخيال المشابه في العالم الصّغير لعالم المثال في العالم الكبير ثمّ منه الى المدارك الظّاهرة