في الدّعوة ايمان الخلق فاذا آمن بعض الخلق فقد حصل الحكمة ولم يبطل الغاية وقد آمن به كثير فيستوى ايمانكم وعدم ايمانكم لانّ الّذين أوتوا العلم آمنوا به و (إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ) اللّام بمعنى على (سُجَّداً) تأثّرا به وانسلاخا من بشريّتهم وشكرا لله لانجاز وعده وللوصول الى مطلوبهم (وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا) إظهارا للشّكر باللّسان (إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ) كرّره للتّأكيد المطلوب في مقام المدح (يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) لتأثّرهم به (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ).
اعلم ، انّ القرآن ذو وجوه بحسب التّنزيل وذو بطون بحسب التّأويل ، وانّ أسماءه اللّفظيّة عناوين لاسمائه الكونيّة وهي مظاهر لاسمائه الحقيقيّة الّتى هي مبادي أسمائه الكونيّة وأرباب أنواعها والظّاهرة فيها ، والأسماء الحقيقيّة عنوانات لحقيقة الوجود المطلق كما انّ أسماءه الكونيّة واللّفظيّة والكتبيّة عنوانات لتلك الحقيقة باعتبار تلك الأسماء الحقيقيّة. وانّ الحقّ الاوّل تعالى مسمّى بالله باعتبار انطواء الكثرات فيه ، ومسمّى بالرّحمن باعتبار إظهاره للكثرات والمراتب والحدود ، وانّ فعله المعبّر عنه بالمشيّة والولاية الكلّيّة مظهر لله باعتبار انطواء الكثرات فيه ومظهر للرّحمن باعتبار انبساطه على الكثرات ويسمّى المشيّة بالاعتبار الاوّل عرشا وبالاعتبار الثّانى كرسيّا ولذلك يعبّر عنها حين الاضافة الى الكثرات بالكرسىّ كما قال : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ،) وحين الاضافة الى الحقّ الاوّل تعالى بالعرش (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) ، وكون العرش مظهرا لله باعتبار انطواء الكثرات فيه لا ينافي كونه منسوبا اليه الرّحمن لانّه باعتبار مغايرته له تعالى من جانب الكثرات فاضافته تعالى اليه مثل اضافة الكرسىّ الى الكثرات ، والحقّ الاوّل باعتبار وصف الرّحمن مصدر له ومضاف اليه ، وكلّ من مراتب الجبروت والملكوت مظهر لله وللرّحمن بالاعتبارين المذكورين. والمراتب عاليها مظهر لله من حيث إجمال الكثرات فيه بالنسّبة الى دانيها ، ودانيها مظهر للرّحمن من حيث التّفصيل بالنّسبة الى العالي ، ولمّا كان الإنسان منطويا فيه جميع الأسماء والمراتب كان من حيث روحه مظهرا لله ومن حيث نفسه مظهرا للرّحمن ان لم يصير بالتّنزّل مظهرا للشّيطان ، وهكذا في جملة مراتبه. وخلفاء الله الّذين هم أكمل افراد الإنسان مظاهر لله وللرّحمن بالاعتبارين ؛ فالنّبىّ باعتبار ولايته مظهر لله تعالى ومن حيث نبوّته ورسالته مظهر للرّحمن ، بل النّبوّة من حيث وجهتها الى الولاية مظهر لله ، تعالى ومن حيث وجهتها الى الرّسالة مظهر للرّحمن ، وشخص النّبىّ من حيث أخذ الميثاق والبيعة من العباد مظهر لله ، وتابعه المعاضد له في تعليم العباد طريق الوصول اليه والبيعة معه مظهر للرّحمن ، وهكذا خلفاؤهما المأذونون منهما في أخذ الميثاق والبيعة من الخلق ، ويسمّى النّبىّ وخليفته من تلك الحيثيّة شيخ الإرشاد ، والتّابع وخليفته من تلك الحيثيّة شيخ الدّلالة ، والعباد المطيعون من حيث نشأتهم في الجذب مظاهر لله ومن حيث حالهم في السّلوك مظاهر للرّحمن. والدّعاء قد يطلق على التّسميّة ويكون متعدّيا الى مفعولين ، وقد يطلق على الذكّر ويكون متعدّيا الى مفعول واحد ، وقد يطلق على دعوة الغير لإحضاره ومجيئه بنفسه بحيث يكون المدعوّ بنفسه مطلوبا ، وقد يطلق على دعوة الغير في المهمّات ؛ وبالمعنى الاوّل يقال : دعوت إبني زيدا ، وبالثّانى يقال : يدعون الله باللّيل والنّهار ، كما يقال بالثّالث والرّابع : يدعون الله مطلقا أو في مهمّاتهم ، ومعنى الآية تنزيلا سمّوا الله ، الله أو الرّحمن بحذف المفعول الاوّل ، ووجه إسقاط المفعول إمكان التّعميم بين وجوه التّنزيل وبطون التّأويل ، وقد نقل في نزوله انّه (ص) كان في المسجد الحرام وقال : يا الله يا رحمن ، فقال المشركون انّه ينهانا عن الإشراك وهو يدعو الهين ؛ فنزلت. ونقل أيضا : انّ اليهود قالوا له (ص) : انّك لتكثر ذكر الله ولا تذكر الرّحمن وفي التّوراة تكرّر ذكر الرّحمن ؛ فنزلت. أو معنى الآية اذكروا لفظ الله ، أو اذكروا لفظ الرّحمن ، أو اذكروا الّذات باعتبار جمعه للكمالات ، أو باعتبار انبساطه