ربّهما غلام القلب الّذى إذا بلغ اشدّه آتاه الله العلم والحكم وأصلح في الأرض وكان أقرب رحما لأبويه (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ) هي النّاصرة وإليها تنسب النّصارى وكانوا الا يضيّفون أحدا قطّ ولا يطعمون غريبا (اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما) وكانا جائعين (فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ) يشرف (أَنْ يَنْقَضَ) ينشّق (فَأَقامَهُ) بوضع يده عليه وقوله : قم بإذن الله ، وفيه تعليم وتنبيه على انّه ينبغي في آخر السّلوك اقامة جدار البدن وإصلاحه حتّى يستتمّ كمال النّفس بإصلاحه والتّعبير في الاوّل بالسّفينة وفي الآخر بالجدار للاشعار بانّ البدن في اوّل السّلوك كالسّفينة المملّوة من كلّ متاع وفي آخره كالجدار المجرّدة عن متاع النّفس (قالَ) موسى (ع) (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) يعنى لم ينبغ ان تقيم الجدار حتّى يطعمونا ويأوونا ، وهذا السّؤال وان لم يكن مثل سابقيه لكنّه لمّا عهد مع الخضر (ع) ان لا يصاحبه ان سأله (قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) اى الفراق الّذى كان معهودا بيني وبينك أو فراق في بيني وبينك (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) اى بإرجاعه الى امر حقّ أو بحقيقته (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) ويتعيّشون بها (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ) اى صالحة وقد قرئ كلّ سفينة صالحة (غَصْباً) وقد فسّر وراءهم في الخبر بإمامهم ، وان كان المراد خلفهم فالمعنى انّ خلفهم ملكا يأخذ كلّ سفينة صالحة غصبا ، وهذه السّفينة إذا رجعت اليه صالحة يأخذها غصبا ، ونظم المعنى يقتضي تقديم قوله وكان وراءهم الى الآخر على قوله فأردت ان أعيبها الى الآخر لانّ ارادة العيب مسبّبة عن أخذ الملك كلّ سفينة غصبا وعن كون أرباب تلك السّفينة مساكين لكنّه وسّطه بين جزئي السّبب اشعارا بانّ الاهتمام في ارادة العيب بحفظ معيشة المساكين والتّرحّم عليهم لا برفع الظّلم ومنع الظّالم ، وبعبارة اخرى كان الجزء المهتمّ به في تلك الارادة من جزئي السّبب هو الحبّ في الله لا البغض في الله ، وبعبارة اخرى كان داعيه الى تلك الارادة هو الرّحمة لا الغضب (وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً) طهارة من الكفر والشّرك والذّنوب ، أو نموّا فانّ غلام القلب اطهر وأنمى من غلام الشّيطنة (وَأَقْرَبَ رُحْماً) رحمة وعطفا على والديه ، أو هو مأخوذ من الرّحم بالكسر والسّكون والرّحم بفتح الرّاء وكسر الحاء بمعنى القرابة وهذا أوفق بالمعنى إذا القرب بالقرابة أقرب منه بالرّحمة ، روى انّهما ابدلا بالغلام المقتول ابنة فولد منها سبعون نبيّا (وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ) وهما تأويلا قوّتا القلب العلّامة والعمّالة فانّ القلب بعد تولّده يحصل له قوّتان بإحداهما يتصرّف في كثرات عالمه الصّغير على وفق حكم العقل ، وبالأخرى يتوجّه الى العقل ويأخذ ما هو صلاحه من العلوم والمكاشفات بحسب نفسه أو بحسب عالمه ، وبعبارة اخرى يصير ذا جهتين ، جهة الوحدة وجهة الكثرة ويتمهما عبارة عن عدم اتّصالهما بأبيهما العقل ، أو عدم اتّصالهما الى أبيهما المرشد المعلّم ، وببقاء جدار البدن يستخرجان ما هو المكمون تحته من كنز الجامعيّة بين التّنزيه والتّشبيه والتّسبيح والتّحميد وهو مقام الجمع الّذى هو قرّة عيون السّلّاك وللاشارة الى جهة التّأويل ورد اخبار مختلفة كثيرة في تفسير الكنز بأنّه لم يكن من ذهب ولا فضّة ، وفي بعضها كان : لا اله الّا الله ، محمّد (ص) رسول الله ، وبعده بعض كلمات النّصح والوعظ ، وفي بعضها بسم الله الرّحمن الرّحيم وبعده بعض الكلمات النّاصحة ، وفي بعضها الجمع بين التّسمية والتّهليل ورسالة محمّد (ص) وبعده كلمات النّصح ، وفي بعضها الاقتصار على التّهليل فقط وبعده الكلمات النّاصحة ، وبعد اعتبار جهة التّأويل يرتفع الاختلاف عن الكلّ ويتّحد المقصود