من مختلفها (فِي الْمَدِينَةِ) اى النّاصرة (وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) وصلاح أبيهما صار سببا لمراعاتهما واقامة جدارهما وحفظ كنزهما ، فانّ الله ليحفظ ولد المؤمن الف سنة كما في الخبر وانّ الغلامين كان بينهما وبين أبويهما سبعمائة سنة ، وفي الخبر انّ الله ليصلح بصلاح الرّجل المؤمن من ولده وولد ولده ويحفظه في دويرته ودويرات حوله فلا يزالون في حفظ الله لكرامته على الله (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما) قوّتهما قيل : هو ما بين ثماني عشرة سنة الى ثلاثين وهو مفرد على بناء الجمع نادر النّظير ، أو جمع لا واحد له من لفظه ، أو واحده شدّ بالكسر أو شدّ بالفتح لكنّهما غير مسموعين بهذا المعنى ، ومعنى الجمع أوفق بالمقصود لانّه أريد به قوّة جميع القوى البدنيّة والنّفسانيّة (وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ) اى ما رأيت من العجائب أو ما رأيت من اقامة الجدار (عَنْ أَمْرِي) ورأيى.
مراتب السّلوك
اعلم ، انّ مقصود الخضر (ع) كان من إظهار تلك الغرائب ظاهرا وإجرائها باطنا تعليم موسى (ع) طريق التّكميل ، وتكميله من جهة حاجته الى التّعليم وان كان موسى (ع) من جهة الرّسالة ومراقبة احكام الكثرة وحفظ مراتبها أفضل وأكمل من الخضر (ع) كما مرّ لكنّه كان محتاجا الى تعليم الخضر (ع) طريق التّكميل في جهة الوحدة والسّلوك الى الله ، ولمّا كان السّالك في اوّل مراتب سلوكه وهو السّير من الخلق الى الحقّ محتاجا الى خراب البدن واضمحلال القوى النّفسانيّة حتّى يتخلّص من سلطان الشّيطان وغصبه ويسلّم للقوى العقليّة الّتى هي في اوّل الأمر مساكين عاجزون عن اكتساب ما يحتاجون اليه أظهر عليهالسلام تخريب السّفينة تنبيها وتعليما وتكميلا ، وأسباب تخريب البدن وكسر قوى النّفس غير محصورة ولا ضبط لها ولا ميزان بل تكون اختياريّة كانواع الرّياضات والسّياحات والعبادات ، وتكون اضطراريّة كانواع البلايا والامتحانات الّتى يوردها الله على السّالك بحسب ما يقتضيه حكمته بل نقول : دخول السّالك في السّلوك وقبول الشّيخ ايّاه والتّوبة على يده وتلقينه الذّكر بشروطه اوّل كسر قوى النّفس واوّل مراتب جهاده ومقاتلته مع قوى النّفس واوّل قدرة الإنسان على الجهاد والغلبة ويحصل له بامداد الشّيخ الغلبة مرّة بعد اخرى حتّى يحصل له السّلطنة والحكم ، والسّالك في تلك المرتبة من السّلوك كافر محض بالكفر الشّهودى حيث لا يرى الله مجرّدا ولا في مظاهره حالّا أو متّحدا معها ، والشّيخ ينبغي ان يتنزّل عن مقامه العالي الى هذا المقام ويخاطب السّالك مطابقا لحاله مشعرا بكفره واستتار الحقّ عنه ولذلك قال الخضر (ع) في اوّل الأمر (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) ، بنسبة الفعل الى نفسه استقلالا وإظهارا لانانيّته من غير اشارة الى شراكة أو تسبيب من الله ، ولمّا كان كلّ ما ينسبه السّالك الى نفسه وكلّ ما يراه من انانيّته نقصا وشرّا وعيبا ابرز الفعل المنسوب الى انانيّته بلفظ العيب تنبيها على انّ السّالك ينبغي ان لا يرى الّا عيب فعله في ذلك المقام وان كان خيرا فقال ان أعيبها ولم يقل ان استخلصها من الغصب أو اسلّمها لأربابها ، ولا يرى السّالك حينئذ الّا طريق (١) الاعتزال ويرى نفسه مختارة والحقّ معزولا. فاذا انتهى سفره هذا وابتدأ السّفر الثّانى وهو السّير من الحقّ والخلق الى الحقّ وبعده من الحقّ الى الحقّ ينبغي ان يقتل ويمحو الشّيطنة الّتى هي رئيس تمام القوى النّفسانيّة والجنود الشّيطانيّة حتّى يتولّد طفل القلب ويطهر بيت الصّدر وينزل الاملاك فيه ويعمروا بيت القلب ويطهّروه لدخول ربّ البيت فيه ، وفي هذا السّفر منازل كثيرة جدّا بحسب تجليّه تعالى بأسمائه على السّالك مفردة أو منضّمة ، وفي هذا السّفر يظهر عليه جميع العقائد الباطلة وينحرف الى جميع المذاهب المختلفة من الثّنويّة والابليسيّة والوثنيّة والصّابئيّة والجنّيّة والملكيّة والغلوّ والنّصب
__________________
(١) ـ من انتساب الأفعال الى العبد بنحو التّفويض لعدم رؤيته حينئذ غير نفسه حتّى يداخله في فعله.