والاعتزال والجبر والتّوسّط بينهما والحلول والاتّحاد والوحدة والاباحة والإلحاد ونفى الحشر وإثبات المعاد وانكار النّبوّة وإثباتها بحسب تجليّاته المختلفة بأسمائه المختلفة المتضادّة بحيث يرى كلّ هذه لو لم يكن عناية شيخ عليه حقّه وجميع المذاهب نشأت من هذا السّير من حيث انّه لم يكن سلّاكه تحت امر شيخ يربّيه ، ويظهر بطلان الباطل عليه ، فانّه قد يظهر عليه عالم النّور والظّلمة ويراهما متصرّفين في عالم الطّبع فيحسب انّ للعالم مبدئين النّور والظّلمة ، وقد يرى في العالمين حاكمين يتصرّف فيهما وفي عالم الطّبع فيحسب انّ المبدء يزدان واهريمن ، وقد يرى العالمين وحاكمهما مستقلّين غير معلول أحدهما للآخر فيظنّ انّهما قديمان ، وقد يرى عالم الظّلمة وحاكمه معلولين للنّور وحاكمه فيحسب انّ أحدهما قديم والآخر حادث ، وقد يتجلّى تعالى شأنه على بعض المظاهر كالاملاك والأفلاك والفلكيّات والعناصر والعنصريّات والأبالسة والجنّة باسم الآلهة فيظنّ انّه مستحقّ للعبادة وقد يتجلّى ببعض أسمائه على السّالك أو على غيره بحيث يراه حالّا فيه فيعتقد الحلول ، وقد يعتقد في هذا التّجلّى الجبر حين يرى الفعل منه تعالى جاريا عليه ، وقد يتجلّى كذلك بحيث يرتفع الاثنينيّة فيعتقد الاتّحاد وقد يعتقد في هذا التّجلّى التّوسّط بين الجبر والتّفويض ، وقد يتجلّى عليه أو على غيره بحيث لا يبقى شعور من السّالك بغيره تعالى وان كان باقيا عليه بعد شيء من البشريّة فيظهر منه حينئذ الشّطحيّات مثل : سبحاني ما أعظم شأني ، وليس في جبّتى سوى الله ، وانّا الحقّ ، وأمثال ذلك ، وقد يعتقد السّالك الغلوّ في كلّ من تلك التّجليّات الثّلاثة ، ولعلّ قوله تعالى : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) كان اشارة الى الثّالث من تلك المقامات ، لانّه تعالى لم يشر الى بقاء نفسيّة لهم في العبارة ، وقد يتجلّى باسم الواحد عليه وعلى ما سواه فيمحو المراتب والتّعيّنات عن نظر السّالك فيعتقد الوحدة ويتولّد منه الاباحة والإلحاد والزّندقة وانكار الرّسالة وانكار المبدء والمعاد وسقوط العبادات ولا يخلو السّالك في هذا السّفر عن الشّرك الوجودىّ ورؤية الانانيّة من نفسه مع شهود الحقّ مجرّدا أو في المظاهر ، وأيضا قلّما ينفكّ عن الخشية وان كان قد زال عنه الخوف لانّه جاوز السّفر الاوّل ، والخوف من لوازمه ، وللاشارة الى هذا السّفر والإشراك والخشية اللّازمين فيه قال فخشينا تشركيا في الانانيّة حيث تنزّل الى هذا المقام مداراة مع موسى (ع) وموافقة له ، والخشية وان لم يصحّ نسبتها الى الله تعالى منفردا لكن تشريكه تعالى في الانانيّة مع كون نسبتها الى أحدهما صحيح ، وأيضا الخشية حالة حاصلة عن التّرحّم والخوف (١) ، وبعبارة اخرى حالة ممتزجة من لّذة الوصال والم الفراق والفوات ، ونسبتها إليهما باعتبار جزئيها صحيحة ولرؤية الارادة من نفسه ومن الله قال فأردنا بالتّشريك ، ونهاية هذا السّفر نهاية الفقر وبداية الغنى كما أشير اليه بقوله : الفقر إذا تمّ هو الله ، وفي تلك الحالة ان بقي عليه شيء من بقايا نفسه وبقايا البشرية يظهر منه الشّطحيّات كما سبق ، وبعد هذا السّفر السّفر بالحقّ في الحقّ ، وفي هذا السّفر لا يبقى عين من السّالك ولا اثر فلا يكون منه ومن سفره خبر ، ولذا لم يظهر الخضر (ع) منه شيئا ولم يخبر عنه بشيء ، وبعد هذا السّفر السّفر بالحقّ في الخلق ، وهو آخر مقامات السّالكين ونهاية سير السّائرين وبحسب السّعة والضّيق والتّمكّن والتّلوّن في تلك المقامات يتفاضل السّلاك والأولياء والرّسل (ص) ، وهذا السّفر هو البقاء في فناء والبقاء بالله ، وفيه شهود جمال الوحدة في مظاهر الكثرات ، وفيه حفظ الوحدة في عين لحاظ الكثرة ، وحفظ المراتب وحدودها في عين شهود الوحدة ، وجمال الحقّ الاوّل ، وفي هذا السّفر لا يبقى الانانية الّا لله الواحد القهّار ، ولا يرى السّالك فعلا وصفة وحولا وقوّة الّا من الله وبالله فيقول عن شهود وتحقيق : لا اله الّا الله ، ولا حول ولا قوّة الّا بالله ، وهو الاوّل والآخر والظّاهر والباطن ، وهو بكلّ شيء عليم ، وهو بكلّ شيء محيط ، ولا مؤثّر
__________________
(١) فينسب ترحم والوصال الى الله والخوف والفراق الى العبد فانّ جهة العبديّة ليست الّا الخوف والفراق والجهة الإلهيّة ليست الّا التّرحّم والوصال فلا يظهر الوصال الّا برفع جهة العبديّة.