ذلك فاعلم ، انّه تعالى قيّوم ومعنى قيّوميّته انّ به تحصّل الأشياء وبقاءها ومعنى به بقاؤها ان لا بقاء لها في أنفسها الّا بمبقيها ايّها النّاس أنتم الفقراء الى الله والله هو الغنى ، مثالها في بقائها بمبقيها وفنائها في أنفسها ، مثال ضوء الشّمس المنبسط على السّطوح فانّه من حيث إضافته الى السّطوح آنا فانا في الفناء بحيث لا يبقى ضوء على سطح آنين ، إذا أردت معرفة ذلك من طريق الحسّ فانظر الى ضوء منبسط على سطح من كوّة يكون بينها وبين ذلك السّطح مسافة بعيدة ، فاذا انسدّ تلك الكوّة فنى ذلك الضوء من السّطح من غير تراخ ولو لا فناؤه في نفسه وبقاؤه بمبقيه الّذى هو الشّمس لبقي آنا ما بعد سدّ الكوّة ، وإذا كان حال الأشياء بالنّسبة الى الله تعالى حال الضّوء بالنّسبة الى الشّمس فلو لم يجد بإفاضة الضّوء الحقيقىّ على سطوح المهيّات آنا ، لفنت الأشياء فهو تعالى أبدا في الافاضة والخلق والإبداء ، فيداه بمعانيهما الّتى عرفت مبسطوطتان بالإنفاق وكيفيّة إنفاقه منوطة بمشيّته فمن قال قد فرغ من الأمر جهل الأمر وكذب على الله ولعن من باب معرفته وغلّت يداه العلمىّ والعملىّ الى عنقه. هذا في العالم الكبير وكلّ ما في العالم الكبير فهو بعينه في العالم الصّغير من غير تفاوت الّا بالكبر والصّغر ما دام الصّغير صغيرا فالنّفس الامّارة كالعالم السّفلىّ واللّوامة وبدنه كعالم العناصر والمطمئنّة كالسّماوات والقلب كالإنسان واقع بين السّفلىّ والعلوىّ والرّوح والعقل كعالم الأرواح ؛ قلب المؤمن بين إصبعي الرّحمن ، اشارة الى السّفل والعلو كاليدين في الكبير ولكونه صغيرا عبّر عنهما بالاصبعين (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) اللّام موطّئة ويزيدنّ جواب القسم ، والسّرّ فيه انّهم لمّا تمكّنوا في الكفر فكلّما قرع الحقّ سمعهم ازدادوا تنفّرا واشمئزازا منك ومن الحقّ لعدم السنخيّة فازدادوا حنقا وكفرا (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ) في القلوب (وَالْبَغْضاءَ) في الأفعال لانّ ما به الاتّفاق والمحبّة هو الايمان والتّوجّه الى عالم الوفاق والوداد وهم بريئون منه (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) لعدم وفاقهم فأجسادهم عظيمة مجتمعة وقلوبهم ضعيفة شتّى (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) مفعول مطلق من غير لفظ الفعل ان كان السّعاية بمعنى الإفساد والّا فمفعول له ، وافسادهم في ارض عالمهم الصّغير بترك إصلاح اهله وصدّهم عن طريق القلب وفي الكبير بصدّ اهله عن طريق الايمان قيل : بإفسادهم سلّط الله عليهم بخت نصّر فاستأصلهم ثمّ فطرس الرّومىّ ثمّ المجوس ثمّ المسلمين (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) فلا قدر لهم عنده (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا) بنبيّهم وكتابهم (وَاتَّقَوْا) مخالفة كتابهم ومخالفة ما فيه من الأحكام ومن وصف محمّد (ص) حتّى يؤمنوا به وهذا وان كان لأهل الكتاب من اليهود والنّصارى لكنّ التّعريض باهل الكتاب من أمّة محمّد (ص) (لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) الّتى لزمت نفوسهم حاصلة من افعال جوارحهم والّتى صارت سببا لافعال جوارحهم (وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) لانّ الايمان يعدّ لدخول الجنّة والتّقوى لازالة السّيّئات (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) يعنى لو انّ أمّة محمّد (ص) أقاموا القرآن لانّه تعريض بهم والمعرّض به هو المقصود في الكلام ، واقامة الكتاب بالايتمار بأوامره والانتهاء بنواهيه وحفظ ما نزل فيه (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ) قد فسّر في الخبر بالولاية مناسبا للتّعريض وامّا بالنّسبة الى المعرّض عنهم فالمراد سائر ما وصل إليهم من أنبيائهم (ع) الآخرين أو ما وصّاهم انبياؤهم أو أوصياؤهم من المحافظة على الكتابين وحدودهما (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ) من الأرزاق السّماويّة الاخرويّة الرّوحيّة (وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ)