والفوق والسفل يوجدان للنبات والحيوان بالطبع ، فإنّ جهة الغصن فوق بالطبع وجهة الأصل سفل بالطبع. ثمّ يعرض أن يصير الفوق أسفل وبالعكس ، ويكون الفوق حافظا للطبيعة الفوقية وكذا السفل. وأمّا القدّام والخلف فإنّهما حاصلان للحيوان حالتي الحركة والسكون ، وغير الحيوان إنّما تعرضان له عند الحركة ، فالجهة التي إليها الحركة تكون قدّاما ، والتي عنها الحركة تكون خلفا ، ومتى تغيرت الحركة تغير القدّام والخلف ، ولا كذلك الحيوان فإنّ قدّامه وخلفه متعيّن بالطبع. وغير الحيوان قد يكون قدّامه وفوقه واحدا عند ما يتحرك إلى فوق ، وتارة يتخالفان إذا كانت حركاته لا إلى الوسط ولا عنه ، بل معترضة بينهما (١).
المسألة الرابعة : في تحدّد الجهات (٢)
أثبت الفلاسفة جسما محيطا بكلّية العالم كري الشكل يحدّد الجهات أي يميّزها ، ونفاه المتكلمون. وهذه مسألة من الطبيعيات تبنى عليها مسائل كثيرة عندهم مهمة سيأتي البحث فيها معهم إن شاء الله تعالى.
واحتجوا هنا على اثبات المحدّد ، بأنّ الجهات قد ثبت فيها جهتان متمايزتان بالطبع هما الفوق والسفل ، وأنّهما ذواتا وضع ، فتعيّن وضعهما ، إمّا في شيء متشابه سواء كان خلاء أو ملاء ، وإمّا في شيء مختلف ، والأوّل محال ؛ لأنّ المتشابهات (٣) تتساوى أحكامها ، فليس بعض الحدود المفروضة في ذلك المتشابه بأن تكون جهة أولى من سائرها ، فإمّا أن يقتضي كلّها جهة واحدة ، وليس إحداهما بأن يكون
__________________
(١) انظر نهاية الفصل الثالث عشر من المقالة الثالثة من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء ، والمباحث المشرقية ١ : ٣٦٤ ـ ٣٦٥.
(٢) انظر شرح الإشارات ٢ : ١٧٥ ـ ١٨١.
(٣) م : المتساويات.