فالحرارة الغريزية هي التي تحمي الرطوبات الغريزية عن أن يستولي عليها الجفاف (١) ، ولهذا يقال : حرارة غريزية ، ولا يقال : برودة غريزية (٢).
وحكى في «حيوان الشفاء» (٣) عن المعلم الأوّل أنّه قال : الحرارة المنويّة التي بها تقبل علاقة النفس ليس من جنس الحار الاسطقسي (٤) الناري ، بل من جنس الحار الذي يفيض من الأجرام السماوية ، فإنّ المزاج المعتدل بوجه ما مناسب لجوهر السماء ؛ لأنّه منبعث عنه. وفرق بين الحار السماوي والحار الأسطقسي ، واعتبر ذلك بتأثير حرّ الشمس في أعين العشي (٥) دون حرّ النار ، وبسببها صار الروح جسما إلهيا نسبته من المني والأعضاء نسبة العقل من القوى النفسانية ، فالعقل أفضل المجردات والروح (٦) أفضل الأجسام.
وذهب آخرون (٧) إلى أنّها من جنس الحرارة النارية ، فالنار إذا خالطت العناصر ، وكانت تلك النار تفيد ذلك المركب طبخا واعتدالا وقواما ، ولم تبلغ في الكثرة إلى حيث تبطل قوامها وتحرقها ، ولم تكن في القلة بحيث تعجز عن الطبخ
__________________
(١) في المصدر : «الحرارة الغريبة».
(٢) وقال أيضا : «ولا ينسب إلى البرودة من كدخدائية البدن ما ينسب إلى الحرارة» (القانون في الطب ، لابن سينا ١ : ١١٨).
(٣) في الفصل الأوّل من المقالة السادسة عشرة ٣ : ٤٠٣ ـ ٤٠٤.
(٤) الاسطقس : هو اجتماع الجسم الأوّل مع الأجسام التي تخالفه في النوع ، فيقال له إنّه اسطقس لها ؛ ولذلك قيل : إنّه أصغر أجزاء ما ينتهى إليه تحليل الأجسام ، فلا توجد فيه قسمة إلّا إلى أجزاء متشابهة. (رسالة الحدود لابن سينا : ١٩).
(٥) لفظ الأعشى وقع موقع الأجهر ، لأنّ الأعشى هو الذي يبصر نهارا ولا يبصر ليلا ، والأجهر بالعكس وسبب العشي بخار حاصل بسبب ما يكدر نور الباصرة ليلا ، وبالنهار يذوب بسبب حرارة الشمس فيبصر نهارا ، وسبب الجهر ضد ذلك ، فالأعشى لا يضرّه حرارة الشمس ، بل تنفعه ، وتضر الأجهر. (شرح المواقف ٥ : ١٧٨).
(٦) قال الطوسي : «الروح جسم مركّب من الأبخرة والأدخنة المرتفعة من الدم المحتبسة في الشرائر» ، (نقد المحصل : ٣٨٧).
(٧) منهم «جالينوس» وأتباعه من الأطباء كما في (شرح المواقف ٥ : ١٧٩) ، وإليه ذهب الرازي.