البحث الخامس : في حصر قسمة المعلوم إلى الموجود والمعدوم (١)
أطبق أكثر العقلاء على ذلك وذهب قوم ممّن عمشت (٢) بصائرهم من إدراك الحق وقصرت أفكارهم عن التعمّق في المباحث العقلية : إلى إثبات واسطة بين الموجود والمعدوم ، سمّوها الحال (٣).
وتقرير قولهم أن نقول : إذا علمنا أمرا من الأمور ، فإمّا أن يكون راجعا إلى الإثبات أو إلى النفي. والأوّل لا يخلو ، إمّا أن يضاف إلى غيره أو لا. والثاني هو الذات ، ويحدّ بأنّه الثابت الذي يعلم غير مضاف إلى غيره ، فخرج المعدوم وإن كان معلوما ، لأنّه ليس بثابت ، والصفة (٤) لأنّها تعلم مضافة إلى غيرها.
والمضاف إمّا أن يكون مقصورا على ما يضاف إليه نظير كون المحلّ ، أو يكون منفصلا عنه نظير الفعل بالنسبة إلى الفاعل.
فالأوّل الحال ، ويحدّ بأنّه الذي يثبت للذات مقصورا عليه. فخرج النفي بقولنا : ثبت ، والذات بقولنا : للذات ـ فإنّها لا تثبت لغيره ـ والأشياء المنفصلة التي تضاف إلى غيرها كالأفعال ، والآثار الصادرة عن العلل في غير محالّها ، فإنّها لا تكون أحوالا للعلل ، بقولنا مقصورا عليه.
واعلم : أنّ الحال أخصّ من الصفة ، فإنّ الصفة كلّ أمر مضاف إلى غيره ،
__________________
(١) راجع ما كتبه أبو رشيد سعيد بن محمد النيسابوري (م ٤٤٠ ه) وهو من رؤساء المعتزلة ، في كتابه المسمى بالتوحيد : ٥٨٥. وانظر الفصل الرابع من المقالة الأولى من إلهيات الشفاء ، وتعليقة صدر المتألهين عليه : ٢٦ ؛ المحصل ، وذيله للطوسي : ٨٥ وما بعدها ؛ المباحث المشرقية : ٤٥ ـ ٤٧ ؛ المواقف : ٥٧ ـ ٥٨.
(٢) عمشت عينه تعمش : ضعف بصرها مع سيلان دمعها في أكثر الأوقات (قطر المحيط ٢ : ١٤٤٢).
(٣) وهي غير مشدّدة ، كما زعم بعض أهل المعاجم.
(٤) أي وخرجت الصفة.