واعلم أنّ التحقيق هنا ما ذكره شيخنا أفضل المحققين ، حيث سألته عن ذلك ، وهو أنّه من المستبعد كون العلوم كلّها ضرورية لشخص من الأشخاص ، إلّا من أيّد بوحي من الله في كلّ معارفه الكسبية لغيره ، بل بعضها ضروري وبعضها كسبي ، وذلك الكسبي لا بدّ له من مقدمات تكون كاسبة له لامتناع حصوله عن لا شيء ، والقبول الذاتي للنفس غير كاف ، وإلّا لحصلت المعارف للأطفال بل للجنين ، وليس كذلك بالضرورة ، فلا بدّ من المقدمات.
نعم قد لا يحتاج في تلك المقدّمات إلى معلّم ومرشد ، ولا نعني بالفكر إلّا نفس تلك المقدّمات المترتبة المنتظمة نظما يحصل معه الإنتاج.
المسألة الثامنة : في إمكان اجتماع التعقلات (١)
زعم بعض من لا مزيد تحقيق له ، أنّ النفس لا تقوى على استحضار علمين دفعة ، بل متى توجه الذهن نحو علم من العلوم لطلب تحصيله أو استحضاره والالتفات إليه تعذر في تلك الحالة إقباله على شيء آخر.
وسبب غلطهم عدم الفرق بين القوّة العقلية والخيالية ، وأنّ تلك مجرّدة نسبة المعارف إليها كلّها على السواء لا تتعاند عندها الصور المعقولة لها ، ولا تتمانع أفعال آلتها لها إذ لا آلة لها ، بخلاف القوّة الخيالية الجسمانية فإنّها قد لا تقوى على استحضار علوم كثيرة وتخيلات مختلفة دفعة واحدة ؛ لأنّها لا يتم فعلها إلّا بآلة جسمانية. فإذا قلنا : الإنسان ناطق علمنا مفهوم هذه الألفاظ ، وظهر في ذهننا وخيالنا أمر مطابق في الترتب لهذا الترتّب الحاصل في الألفاظ ، فإذا قلبنا وقلنا الناطق إنسان لم ينقلب ما حصّلناه من المعنى العقلي ، لكن الصورة
__________________
(١) راجع المباحث المشرقية ١ : ٤٧٦ ـ ٤٧٧.