المسألة الرابعة عشرة : في التلازم بين التجرد عن المادة والتعقّل
هذا الحكم يتوقف على أمرين :
أ : إنّ العاقل يجب أن يكون مجردا عن المادة ولواحق المادة ، وهذا سيأتي إن شاء الله تعالى في علم النفس.
ب : عكسه وهو أنّ كل مجرد يجب أن يكون عاقلا ، ولنبحث الآن فيه.
وقد صدر عن الأوائل فيه حجج ثلاث (١) :
الحجة الأولى : إنّ كل مجرّد يصح أن يعقل غيره ، وكل ما يصح أن يعقل غيره فإنّه يصح أن يعقل ذاته.
أمّا الصغرى ، فلأنّ كل مجرّد فإنّه يصح أن يكون معقولا وحده بالضرورة ، إذ لا مانع فيه عن التعقل لأنّا فرضناه مجردا وهو المصحح للمعقولية ، فإذا وجد القابل وجد الفيض قطعا ، وكل ما يصح أن يكون معقولا وحده صح أن يكون معقولا مع كل ما عداه من المعقولات ، فكل ما كان كذلك صح على ماهيته أن تقارن جميع ما عداه من الماهيات ؛ لأنّ التعقل حصول صورة المعقول في العاقل ، فإنّ كل مجرد فانّه يصح أن تقارن ماهيته سائر الماهيات.
فنقول : تلك الصحّة إن اعتبر فيها كون تلك الماهية في العقل ، مع أنّ كونها في العقل عبارة عن كونها مقارنة للعقل ، لزم أن تكون صحة وجود الشيء متأخرة عن وجوده ، وقد كان الوجود متأخرا عن الصحة ، هذا خلف. أو لا يعتبر فيها ذلك ، وحينئذ تلك الماهية المعقولة إذا وجدت قائمة بنفسها في الخارج أمكن أن تقارن ماهيتها ماهيات الأشياء المعقولة ، ولا معنى للتعقل إلّا هذه المقارنة.
__________________
(١) ذكرها الرازي وسماها بالطرق الثلاثة. راجع المباحث المشرقية ١ : ٤٩١.