المسألة الرابعة : في أنّ التعقل هل يتوقّف على الانطباع أم لا؟ (١)
اختلف الناس في ذلك ، فأكثر الأوائل عليه ؛ لأنّا (٢) نتصور أمورا لا وجود لها بالفعل سواء كانت ممكنة مثل كثير من الأشكال الهندسية ، أو ممتنعة كشريك الباري ، ونحكم على ما لا تحقّق له في الأعيان كالممتنعات بأحكام إيجابية ، كالامتناع. فذلك المحكوم عليه يجب أن يكون ممتازا عن غيره ، وإلّا لم يكن هو بذلك الحكم أولى من غيره ، وكلّ ممتاز فهو ثابت ، فإنّ العدم المحض والنفي الصرف لا يتحقق فيه امتياز ولا تعدد ولا تخصص ، ولو جاز في العدم الصرف أن يكون بعضه متميزا عن البعض بالمقدار واللون والشكل لجاز في هذه الأمور التي يتميز بعضها عن البعض بالبصر أن تكون معدومة ، وهو سفسطة ، بل هذه الامتيازات والمخصصات كلّها في لواحق الموجود الثابت.
وإذ ليس ذلك الثبوت والوجود في الخارج ؛ لأنّا فرضناه ممتنعا فيه معدوما ، ولأنّ ذلك الامتناع واجب الثبوت للممتنع لاستحالة أن ينقلب الممتنع غير ممتنع ، فلو كان ذلك الامتناع ثابتا في الخارج لكان وجود الممتنع واجبا في الخارج ، لوجوب وجود الشرط عند وجود المشروط ، فيكون ممتنع الثبوت في الخارج واجب الثبوت في الخارج ، هذا خلف ، فهو موجود في الذهن حتّى يتأتى للذهن أن يحكم عليه بامتناع أن يعرض له الوجود الخارجي.
لا يقال : لو كان كون الشيء ممتنع الوجود في الخارج لأجل حكم الذهن على الصورة الذهنية بامتناع حصولها في الخارج ، لكانت الممكنات بأسرها ممتنعة ؛
__________________
(١) قارن المباحث المشرقية ١ : ٤٣٩ ـ ٤٤١ ؛ المسألة الثالثة عشرة من مباحث الكيف من شرح العلّامة على تجريد الاعتقاد. والانطباع والارتسام والقبول من اصطلاحات المشاء.
(٢) بهذا الدليل استدل القوم على اثبات الوجود الذهني أيضا.