ولمّا (١) كان لمراتب الحدس والفكر اختلاف في التأدية إلى المطلوب بحسب الكيف باعتبار سرعة التأدية وبطئها ، وبحسب الكم فلكثرة عددها وقلّته ، والأوّل (٢) يكون في الفكرة أكثر لاشتمالها على الحركة ، والثاني (٣) يكون في الحدس أكثر لتجرّده عن الحركة ؛ ولأنّ الحدس أنّما يكون لقوة في النفس. فكان لتلك المراتب حدّا نقصان وكمال. وحدّ النقصان هو أن ينبتّ جميع أفكار الشخص عن مطالبه. وحدّ الكمال هو أن يحصل لشخص ما ما يمكن أن يحصل لنوعه من العلوم بحسب الكم ودفعة ، أو قريبا من ذلك بحسب الكيف على وجه يقيني يشتمل على الحدود الوسطى لا تقليديّ.
ولمّا كان طرف النقصان مشاهدا فكذا طرف الكمال ممكن الوجود ، بل موجود في طرف الأنبياء والأوصياء وحذاق العلماء الذين يستغنون في أكثر أحوالهم عن التعلّم والفكر ، وهم أصحاب القوّة القدسية.
وأمّا القوة المناسبة للمرتبة الأخيرة فيسمى عقلا بالفعل ، وهي ما يكون عند الاقتدار على استحضار المعقولات الثانية بالفعل متى شاء بعد الاكتساب بالفكر أو الحدس.
فهذه القوى الثلاث ، أعني : القوة الهيولانية (٤) والقوة بالملكة والقوة بالفعل ، هي قوى النفس في الإدراك. وأمّا حصول تلك المعقولات بالفعل ، فإنّه كمال للنفس ، وهو المسمى بالعقل المستفاد لأنّها مستفادة من الله تعالى عندنا. وعند الأوائل من عقل فعال في نفوس الناس يخرجها من درجة العقل الهيولاني إلى درجة
__________________
(١) قارن شرح الإشارات ٢ : ٣٦٠ ـ ٣٦١.
(٢) أي الاختلاف بحسب الكيف.
(٣) أي الاختلاف بحسب الكمّ.
(٤) ق : «هيولائية».