أوّل ما يدرك صورة جزئية ثمّ يترعرع قليلا ، فيدرك صورة يحكم بأنّها أمه ويميز بينها وبين غيرها ، ثمّ يأخذ في زيادة الترعرع فيدرك صورة يحكم عليها بأنّها أبوه ويميز بينه وبين غيره ، وهكذا يزداد كمالا على التدريج بواسطة زيادة إحساسه للأُمور الجزئية حتى يفرق بين الإنسان وغيره من أنواع الحيوانات ، ويدرك المشاركات بين الأُمور المتشابهة ، والمباينات بين المختلفات ، وينتزع العلوم البديهية كلّها بواسطة كماله في الإحساس.
لأنّا نقول : لا نسلّم أنّ الإحساس يفيد النفي على ما يأتي.
سلّمنا ، لكن لا نسلّم أنّ الإحساس يمكن أن يكون مبدأً لهذه العلوم البديهية.
بيانه : أنّا نفرض الكلام في قولنا : الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية ، فإنّ هذه من أجلى البديهيات عندهم ، ولا يمكن استفادتها من الحس لوجوه :
أ : أنّه ليس شيء من الجزئيات المحسوسة يعلم أنّها مساوية على التحقيق لشيء واحد ، فإنّ الحس لا يضبط ذلك. ولأنّ الحس لا يمكنه الحكم بشيء على شيء البتة ؛ لأنّه مودّ وآلة في التأدية إلى النفس والحاكم هو النفس لا غير.
ب : لو أفاد الاستقراء هذا العلم لكان ذلك من حيث إنّا لمّا أحسسنا ثبوت وصف المساواة في الخشب مثلا بعضه لبعض ، وفي الحجر والحديد ، علمنا أنّ هذا الوصف لم يثبت للخشب لخصوصية الخشبية ، وإلّا لم يثبت لغيره من الحديد وشبهه ولا بالعكس ، فحينئذ نعلم أنّها إنّما كانت كذلك لأنّها مساوية لشيء واحد ، ولكن هذه الطريقة لا تتم إلّا بعد مقدمات كلية.
منها : أنّ كلّ صفة انتفت مع وجود الحكم فليست علّة له ، ولكن هذه المقدمة كاذبة ؛ لجواز حصول الحكم الواحد بعلل مختلفة ، فإنّه لا يجب من تساوي المعلولات تساوي العلل. واستناد عدم المعلول إلى عدم العلة لا غير ينافي إسناد