اعترافا بأنّ تلك الماهية غير مقتضية لشيء من الوجودات ، ولمّا ثبت أنّ علّة وجود الماهية ليس نفس تلك الماهية فلا بدّ لها من علّة أخرى.
الوجه الثالث : من مشاهير الفلاسفة تركّب الجسم من المادة والصورة (١) ، وكلّ مركب مفتقر في تحققه إلى كلّ واحد من جزئية فيكون ممكنا ، فالجسم ممكن. ولأنّ كلّ واحد من جزئية ممكن ، لافتقار الصورة إلى المحلّ الذي هو الهيولى ، والهيولى لا يمكن انفكاكها عن الصورة ، وليست علّة لها لأنّها قابلة ، فنسبتها إليها بالإمكان ، فلو كانت مؤثرة لكانت نسبتها إليها بالوجوب ، فالواحد نسبته إلى الواحد بالوجوب والإمكان معا ، هذا خلف. وإذا لم تكن علّة للصورة وثبت امتناع خلوها عنها كانت محتاجة في وجودها إلى الصورة ، فهي ممكنة.
لا يقال : الصورة محتاجة إلى الهيولى المعينة ، والهيولى تحتاج إلى مطلق الصورة ، فلا دور. أو يقال : الهيولى حينما احتاجت الصورة إليها لا تكون محتاجة إلى تلك الصورة ، بل إلى صورة سابقة عليها ، فانّ الصورة لا تحتاج إلى الهيولى إلّا في حدوثها ، فانّه لو لا حدوث الاستعداد التام في الهيولى لم تحدث الصورة وحينما تصير الهيولى مستعدة لحدوث تلك الصورة لم تكن متقوّمة بتلك الصورة ، بل بصورة سابقة عليها ، فاندفع الدور.
الوجه الرابع : قد بيّنا أنّ الكائنية زائدة على الجسم وأنّه يمتنع أن يكون شيء من الأجسام المعينة يلزمه شيء من الكائنيات المعينة ، فالجسم والكائنية متلازمان ليس أحدهما علّة للآخر ؛ لأنّ الجسم لو كان علّة للكائنية لامتنع انفكاك ذلك الجسم عن تلك الكائنية ، وقد سبق بطلانه. وظاهر أنّ الكائنية ليست علّة للجسم ، وإذا ثبت ذلك فالجسم محتاج إلى الكائنية احتياجا لو قدرنا ارتفاعها ارتفع الجسم ، وكلّ ما كان كذلك كان ممكنا لذاته فالجسم ممكن لذاته ،
__________________
(١) هذا هو المتّفق عليه بين الحكماء. المباحث المشرقية ٢ : ٤٦.