بيان في الدّفع بالأحسن الى المسيء
اعلم ، انّ رفع إساءة المسيء يتعقّل بالاساءة اليه بما يتعقّل الاساءة اليه من قتله وقطع أطرافه وشقّها وضربه زائدا على قدر إساءته أو مساويا أو ناقصا منه ، والعفو عنه والصّفح اى تطهير القلب من الحقد عليه والإحسان اليه ، والخصلة الحسنى على الإطلاق هي الإحسان الى المسيء فانّه يترتّب عليه المحبّة والوداد ويتعقّبه ما في قوله تعالى (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) ، ولمّا لم يكن الأفعال حسنها وقبحها الّا بإضافتها الى مباديها وغاياتها ، وان كانت متعدّية اعتبرت اضافتها الى من وقعت عليه بل قد يعتبر فيهما الاضافة الى المكان والزّمان والآلة والحاضرين وغيرها لم يكن المراد الدّفع بالأحسن مطلقا بل الدّفع بالأحسن بالاضافة الى الفاعل والمنفعل والمكان والزّمان وغير ذلك لانّ صاحب النّفس الّتى لم ترض من الجاني الّا بقتله أو باضعاف جنايته لم يكن الدّفع منه بالأحسن الّا بالاقتصاص ، ومن يقدر على كظم الغيظ كان الدّفع بالأحسن منه بكظم الغيظ ، ومن يقدر على الصّفح كان الصّفح منه أحسن ، ومن يقدر على الإحسان الى المسيء كان الإحسان منه أحسن ، والإحسان الى الجاني الّذى يزيد الإحسان في طغيانه لم يكن حسنا بل كان قبيحا وهكذا ترك التّعرّض لمن يزيد عدم التّعرّض في اعتدائه ، وهكذا الحال بالنّسبة الى الزّمان والمكان والآلات والسّامعين والشّاهدين فعلى هذا كان معنى الآية انظر الى المسيء وحالاته وزمان رفع إساءته ومكانه فادفع بالّتى هي أحسن بالنّظر الى جميع ما يضاف الدّفع اليه السّيّئة سواء كانت تلك السّيّئة من جنودك وقواك أو من إنسان سواك ، أو من حيوان سوى الإنسان فاقتل من ينبغي ان يقتل واقطع من ينبغي ان يقطع أطرافه ، واقتصّ ممّن ينبغي ان يقتصّ منه واضرب من ينبغي ان يضرب ، وادّب لسانا من ينبغي ان يؤدّب لسانا ، وأحسن الى من ينبغي ان يحسن اليه ، وقوله تعالى : (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) راد بالإحسان فيه فعلا يلائم ويوافق مرتبة المسيء من غير نظر الى حال الفاعل ولا الى حال المسيء كما يجوز ان يكون المراد بالإحسان هاهنا أيضا ذلك بقرينة قوله تعالى (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) فانّ معناه ولا تتعرّض لهم بالزّجر والمكافاة لانّا نحن اعلم بما يصفون ، ولفظة ما مصدريّة أو موصولة (وَقُلْ) إذا أزعجك الشّيطان للاساءة الى المسيء (رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) الهمز الغمز والضغط والطّرد والدّفع والضّرب والعضّ والكسر ، وهمزات الشّياطين زعجاتهم وضغطاتهم (وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) فانّ حضورهم ليس الّا لمناسبة ما بيني وبينهم ويتولّد من حضورهم مناسبة اخرى فأعذني من حضورهم يعنى من مناسبتى لهم وتولّد مناسبة اخرى منهم (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) غاية ليصفون أو لكاذبون أو لقوله قالوا مثل ما قال الاوّلون (قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) أتى بارجعون جمعا امّا لتشريك الملائكة معه تعالى أو لتعظيم الرّبّ (لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً) فردا من الأعمال الصّالحة أو صالحا عظيما هو ولاية علىّ بن ابى طالب (ع) لانّه يظهر حينئذ انّ الرّبّ المضاف كان عليّا (ع) ، وان لا يقبل عمل الّا بولايته وان لا صالح الّا هي ، وانّ كلّ صالح صالح بها (فِيما تَرَكْتُ) اى في الدّنيا الّتى تركتها أو في الأعمال الّتى تركتها ، أو في الولاية الّتى تركتها وقد فسّر في الاخبار المتروك بالزّكوة المتروكة (كَلَّا) جواب وردع لسؤال مقدّر كأنّه قيل : هل يجيب الله سؤالهم؟ ـ فقال : كلّا وارتدع عن هذا السّؤال أو كأنّه قيل : هل يعمل صالحا ان رجع الى الدّنيا؟ ـ قال : كلّا (إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) وليس اجابة لها أو ليس يعمل صالحا ان رجع (وَمِنْ وَرائِهِمْ) امامهم أو خلفهم فانّ الكفّار حين الرّجوع الى الآخرة يكونون مقبلين على الدّنيا ومدبرين عن الآخرة لتعلّق قلوبهم بالدّنيا ووراء بتثليث الآخر مبنيّة ، والوراء معرّفة باللّام بمعنى قدّام وخلف (بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) للحساب أو للجنّة والنّار والمراد يوم القيامة