في هذا المعنى وقد مضى في سورة البقرة وسورة النّساء عند قوله (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) بيان الوالدين والإحسان إليهما واقسامهما (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً) حمل ضعف أو واهنة (عَلى وَهْنٍ) فانّه كلّما يمضى من زمان حمل الولد يحصل وهن آخر (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) اى في انقضاء عامين على الأغلب وعلى ما ينبغي ان يفطم والجملتان معترضتان جواب لسؤال مقدّر في مقام التّعليل كما انّ مجموع قوله تعالى (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) (الى قوله) (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ) (الآية) كان معترضا للاشعار بالاهتمام بأمر الوالدين كالاهتمام بأمر التّوحيد كما مضى في السّورتين المذكورتين انّه تعالى لكمال الاهتمام بأمر الوالدين قرنهما بتوحيده وبالنّهى عن اشراكه في عدّة مواضع (أَنِ اشْكُرْ لِي) ان تفسيريّة أو مصدريّة وبدل مع ما بعدها عن الوالدين بدل الاشتمال (وَلِوالِدَيْكَ) ولكمال الاهتمام بالوالدين ذكر شكر الوالدين قرينا لشكره (إِلَيَّ الْمَصِيرُ) في مقام التّعليل ولم يقل ان اشكر لي واشكر لوالديك لئلّا يتوهّم انّ شكر الوالدين امر مغاير لشكر الله بل شكر الله ليس الّا شكر الوالدين كما عن الرّضا (ع) فانّه قال امر بالشّكر له وللوالدين فمن لم يشكر والديه لم يشكر الله أقول : وليس ذلك الّا من جهة كون شكر الله مندرجا في شكر الوالدين (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) لمّا كان الوالدان التّكوينيّان كما مضى في سورة البقرة والنّساء بحسب كلّ مرتبة من مراتب وجود الإنسان وكلّ شأن من شؤنه غير الوالدين بحسب المرتبة الاخرى والشّأن الآخر وهكذا بحسب التّكليف والاختيار كان الشّيطان والنّفس والديه كما انّ العقل والنّفس ومحمّدا (ص) وعليّا (ع) كانا والديه ، فكما يجوز ان يكون المراد بالوالدين الوالدين الجسمانيّين يجوز ان يراد بهما الوالدان الرّوحانيّان ، وكما يجوز ان يراد الوالدان التّكوينيّان يجوز ان يراد التّكليفيّان فجاز ان يراد بالوالدين في قوله ووصّينا الإنسان بوالديه الجسمانيّان والرّوحانيّان ، وبالضّمير في قوله وان جاهداك الجسمانيّان أو الرّوحانيّان اللّذان هما والداه بحسب مقام جهله تكوينا أو تكليفا بطريق الاستخدام ، وقد ورد اخبار كثيرة دالّة على انّ محمّدا (ص) وعليّا (ع) أفضل آباء هذه الامّة وانّ حقّهما أعظم من حقّ آبائهم الجسمانيّين ، وانّ من أرضاهما ارضى الله والديه الجسمانيّين ، فعن جعفر بن محمّد (ع) : من رعى حقّ أبويه الأفضل محمّد (ص) وعلىّ (ع) لم يضرّه ما ضاع من حقّ أبوي نفسه وسائر عباد الله فانّهما يرضيانهما بشفاعتهما ، وعن علىّ بن محمّد (ع) : من لم يكن والدا دينه محمّد (ص) وعلىّ (ع) أكرم عليه من والدي نسبه فليس من الله في حلّ ولا حرام ولا قليل ولا كثير ، وعن أمير المؤمنين (ع) انّه قال : الوالدان اللّذان أوجب الله لهما الشّكر هما اللّذان ولّدا العلم وورّثا الحكم ، وامر النّاس بطاعتهما ثمّ قال : الىّ المصير فمصير العباد الى الله والدّليل على ذلك الوالدان ثمّ عطف على ابن حنتمة (١) وصاحبه فقال في الخاصّ والعامّ : وان جاهداك ان تشرك بى يقول في الوصيّة وتعدل عمّن أمرت بطاعته فلا تطعهما ولا تسمع قولهما ، ثمّ عطف القول على الوالدين فقال : وصاحبهما في الدّنيا معروفا ، يقول عرّف النّاس فضلهما وادع الى سبيلهما وذلك قوله واتّبع سبيل من أناب الىّ ثمّ الىّ مرجعكم قال الى الله ثمّ إلينا فاتّقوا الله ولا تعصوا الوالدين فانّ رضاهما رضا الله وسخطهما سخط الله ، وقد ورد اخبار كثيرة في حفظ حقّ الوالدين الجسمانيّين أيضا وطاعتهما والتّرحّم عليهما والدّعاء لهما وان كانا لا يعرفان الحقّ ، روى انّه جاء رجل الى النّبىّ (ص) فقال : أوصني ، فقال (ص) : لا تشرك بالله شيئا وان حرقت بالنّار الّا وقلبك مطمئنّ بالايمان ووالديك فأطعهما وبرّهما حيّين كانا أو ميّتين وان امراك ان تخرج من أهلك ومالك فافعل فانّ ذلك من الايمان ، وعن الصّادق (ع) : برّ الوالدين واجب وان كانا مشركين ولا طاعة لهما في معصية الخالق ولا لغيرهما فانّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق
__________________
(١) حنتمة بالحاء المهملة والنون والتاء المثناة الفوقانية هي بنت ذي الرمحين امّ عمر.