لم يكن في خزانة الحقّ تعالى شأنه جو هو أبهى وأمثل منها ، فأخرجها من خزانته الغيبيّة وعرضها على سماوات العقول والنّفوس وسماوات الأفلاك الطّبيعيّة بان أمّرها عليها ثمّ عرضها على أراضي العناصر ثمّ على جبال المواليد فأبى الكلّ من حملها لما لم يكن لها بأهل ، لانّ هذه الجوهرة بذاتها كانت تقتضي محلّا مأمنا عليه حفّاظ كثيرة لكثرة سرّاقها وحسّادها ومستعدّا للخروج من التّقيّد والحدود والوصول الى عالم الإطلاق ، وكلّ تلك المذكورات امّا لم يكن مستعدّا للخروج من الحدود أو لم يكن مستعدّا أو لا مأمنا ولا عليه حفّاظ ، فأشفق كلّ منها عليها ومن فنائها وهلاكها وتضرّع على الله ان يعفيه منها ، ثمّ عرضها على المولود الأخير وغاية الكلّ ونهاية الجميع فوجده أهلا لحملة ، ونظر الإنسان الى استعداده وقوّة الخروج عن الحدود فاشتاق إليها وتقبّلها وسأل الحفّاظ والمعاونين من سنخ الجنّة والشّياطين وسأل الحفّاظ من سنخ الاناسىّ فأعطاه الله ذلك ، وبهذا البيان للامانة يجتمع المختلفات من الاخبار ويتوافق المتخالفات منها ، فقد فسّرت فيها بمطلق التّكليف ، وبالصّلوة ، وبالامامة والامارة ، وبالخلافة ، وبمنزلة محمّد (ص) وآل محمّد ، وبتمنّى منزلتهم ، وبمطلق الامانة ، وبولاية علىّ بن ابى طالب (ع) ، وبشهادة حسين بن علىّ (ع) ، وبالخلافة المغصوبة ، وباختلاف التّفاسير في الامانة يختلف تفسير الإنسان بعلىّ (ع) وحسين (ع) وآدم (ع) وغاصبي الخلافة ومطلق الإنسان وهكذا الظّلوم والجهول ، فمن أراد الاطّلاع على اختلاف الاخبار فليرجع الى كتب التّفاسير والاخبار (لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) تعليل لعرض الامانة أو لحملها الإنسان كما انّ قوله : انّا عرضنا الامانة كان تعليلا لقوله اتّقوا الله وقولوا قولا سديدا أو لقوله يصلح لكم ويغفر ذنوبكم كأنّه قال : اتّقوا سخط الله وعذابه لانّا لم نعرض الامانة على السّماوات والأرض الّا لتميّز المنافق والمشرك عن المؤمن والّا لعذاب المنافق وثواب المؤمن أو يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم لانّا لم نعرض الامانة الّا لذلك ، وتقديم عذاب المنافق ونسبة العذاب الى الله لكون السّورة نازلة في تفضيح المنافقين ولذلك كان اوّل السّورة نهيا لمحمّد (ص) عن طاعة المنافقين ، ونقل عنهم انّ سورة الأحزاب فضحت نساء قريش من العرب وكانت أطول من سورة البقرة ولكن نقّصوها وحرّفوها فادّى تعالى شأنه عذاب المنافقين كأنّه هو الغاية ، ونسب العذاب الى نفسه لذلك ، ولان يختم السّورة بثواب المؤمنين ورحمتهم (وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) فالغاية بالذّات ليست الّا مغفرة الله ورحمته للمؤمنين فهو استدراك لما يتوهّم من كون الغاية بالذّات هو عذاب المنافقين أو عذابهم ورحمة المؤمنين.
سورة سباء
مكّيّة كلّها ، خمس وخمسون آية
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الْحَمْدُ لِلَّهِ) قد مضى تفسيره في اوّل الحمد (الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ) اى سماوات الأرواح