قال رسول الله (ص) : انّ لكلّ قول مصداقا من عمل يصدّقه أو يكذّبه فاذا قال ابن آدم وصدّق قوله بعمل رفع قوله بعمله ، وإذا قال وخالف عمله قوله ردّ قوله على عمله الخبيث وهوى في النّار ، ولمّا كان أصل جميع الكلم الطّيّب هو كلمة الولاية والقول بها والاعتقاد بها صحّ تفسير الكلم بالولاية ، ولمّا كان أصل جميع الصّالحات هو عمل الولاية الّتى هي البيعة الخاصّة الولويّة الّتى يترتّب عليها جميع الخيرات وجميع الأعمال الصّالحات ولا يصير الصّالح صالحا الّا بها صحّ تفسير العمل الصّالح بها مع انّ الآية عامّة لجميع الكلمات وجميع الأعمال (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ) عطف باعتبار المعنى كأنّه قال : فالّذين يعملون الصّالحات يرفع أقوالهم وأعمالهم الى الله ويعزّون بها والّذين يمكرون السّيّئات كقريش ومكرهم في دار النّدوة ، أو كمنافقى الامّة ومكرهم في دفع خلافة علىّ (ع) ولكلّ من يمكر السّيّئة بالنّسبة الى العباد أو الى قوى نفسه وأهل مملكته ، فانّ كلّ من يعصى ربّه فهو يمكر في ارتكاب معصيته لإخفاء النّفس قبح فعله عليه وإظهارها حسنة لديه (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) بالفعل لكنّه لا يحسّ به مثل صاحب الخدر الّذى يحرق عضوه النّار ولا يحسّ به فانّ السّيّئة نفسها عذاب عاجل للطّيفة السّيّارة الانسانيّة ولاختفائها تحت فعليّات النّفس لا تحسّ به (وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) يهلك أو يفسد لانّه من النّفس والنّفس ولوازمها هالكة فاسدة ، تسلية للرّسول (ص) في مكرهم به أو بعلىّ (ع) (وَاللهُ خَلَقَكُمْ) عطف باعتبار المعنى أو على مقدّر كأنّه قال : فالله اعزّكم بالكلم الطّيّب والعمل الصّالح ، والله اذلّكم بمكر السّيّئات ، والله خلقكم (مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) بالذّكورة والانوثة أو جعلكم أصنافا من الذّكر والأنثى ، والأبيض والأسود ، والدّميم والحسن ، والشّقىّ والسّعيد (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى) منكم أو من مطلق الحيوان (وَلا تَضَعُ) جنينها (إِلَّا بِعِلْمِهِ) فلا يعزب عنه شيء فكيف يعزب عنه مكر أولئك أو عمل المؤمنين (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) معناه ما يبلغ عمر معمّر عمره الطّبيعىّ أو قريبا منه أو أزيد ، وما ينقص من عمره الطّبيعىّ والعمر القريب منه الّا حالكونه ثابتا في كتاب هو الكتاب الّذى كتبه الملائكة المصوّرة حين تصويره في رحم أمّه ، أو الكتاب الّذى هو عالم العقول ، أو الكتاب الّذى هو عالم النّفوس الكلّيّة أو الجزئيّة ، أو المعنى الّا حالكونه يكتب بعد إعطاء العمر ونقصانه في كتاب هو كتاب اعماله الّذى يكتبه الملائكة الموكّلة عليه ، أو هو كتاب المحو والإثبات الّذى يكتب فيه ما يظهر من استعداد المستعدّين من أهل عالم الطّبع فيه بعد ظهور الاستعداد ، وهذه الآية بهذا الوجه تدلّ على ثبوت البداء الّذى ورد في اخبار كثيرة.
تحقيق البداء
اعلم ، انّ الآيات والاخبار تدلّ بالصّراحة والاشارة على ثبوت البداء لله وقد ورد في الاخبار نسبة التّردّد في الأمر اليه تعالى ، وورد ما يدلّ على تأثّر الله من فعل العباد مثل اجابة الدّعوات وتغيير الأمر والعمر بالصّدقات والصّلات والشّكر والكفران وسائر الحسنات والسّيّئات ، وكلّ ذلك يدلّ على انّ الله قد يظهر فعلا ثمّ يتركه ويظهر غيره كالنّادم من فعله الاوّل والمظهر لغيره ، ويدلّ بعضها على كون فعل الله تابعا لفعل العباد ، ولذلك أنكرت الفلاسفة كلّ ذلك وأوّلوا ما ورد في الآيات والاخبار من أمثال ذلك لانّ ذلك كلّه يدلّ على عجز الله ونقصانه في فعله ، وجهله بعاقبة بعض أفعاله ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. فنقول : بيان ذلك يستدعى تحقيق العوالم وبيان حقيقة كلّ عالم وبيان انّ العوالم كلّها مراتب علم الله وإرادته وانّ بعض العوالم لضيقه لا يسع ظهور جميع فعليّات ما في العالم الأعلى ولا يظهر فعليّات ما في العالم الا على فيه الّا على التّعاقب ، كما انّ عالم الطّبع لا يسع ظهور فعليّات جميع الصّور فيه الّا على التّعاقب ، فاعلم ، انّ العوالم بوجه ثلاثة ، وبوجه ستّة ، وبوجه سبعة ، لانّها امّا مجرّدة ذاتا وفعلا عن المادّة والتّقدّر ، أو مجرّدة ذاتا متعلّقة فعلا أو متعلّقة ذاتا وفعلا بالمادّة ، والاولى هي عوالم العقول الطّوليّة المعبّر عنها في لسان الشّرع بالملائكة المقرّبين وعوالم العقول العرضيّة الّتى يعبّر عنها بأرباب الطّلسمات والصّافّات