فلذلك التفت من الغيبة الى التّكلّم (مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ) جمع الجدّة بالضّمّ الطّريقة مثل الجادّة وهو عطف على محلّ معمولى انّ ، أو عطف على جملة الم تر فانّه في معنى أنت ترى البتّة ، أو حال والمقصود انّ إنزال الماء من السّماء وإخراج الثّمرات المختلفة من الماء الواحد واختلاف جدد الجبال المتّحدة في الحجريّة كلّها تدلّ على قدرته وعلمه وإرادته (بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها) اى ألوان البيض بالكدرة والشّفافة ، وكذلك الحمر باختلاف ألوانها (وَغَرابِيبُ سُودٌ) جمع الغربيب تأكيد الأسود وكان حقّه ان يقول سود غرابيب لكنّه عكس للتّأكيد ولقصد بيان الغرابيب (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) الضّمير راجع الى البعض المستفاد من لفظة من (كَذلِكَ) متعلّق بمختلف اى مختلف ألوان المذكورات مثل اختلاف جدد الجبال واختلاف الثّمار (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : لم لا يخشى النّاس من الله مع هذه الدّلائل وتلك الإنذارات؟ ـ فقال : لا ينفع الدّلالات والإنذارات لمن لم يقذف الله في قلبه نور العلم ، ولمّا كان أغلب النّاس خالين من نور العلم لا ينفع هذه فيهم.
اعلم ، انّ الإنسان له مراتب ولكلّ مرتبة منه خوف ورجاء ونحو من العلم غير ما للمرتبة الاخرى ، فاولى مراتبه مرتبة نفسه الامّارة ، وفي تلك المرتبة لا تسمّى إدراكاته الّا ظنونا ولا يكون إدراكاته الّا محصورة على لوازم الحيوة الدّنيا فانّ ذلك مبلغها من العلم ولا يكون خوفه ورجاؤه الّا فيما يتعلّق بالحيوة الدّنيا ، وثانية مراتبه مرتبة نفسه اللّوامة وفي تلك المرتبة يختلط إدراكاته من الظّنون والعلوم والذّوق والوجدان لانّه قد يظهر حينئذ بشأن النّفس الامّارة فيحكم عليه بأحكامها ، وقد يظهر بشأن النّفس المطمئنّة فيحكم عليه بأحكامها ، وثالثة مراتبه مرتبة النّفس المطمئنّة وفي تلك المرتبة يكون إدراكاته علوما وذوقا ووجدانا ، وخوفه يكون من الله ومن سخطاته وفراقه ويسمّى ذلك الخوف خشية لانّ الخشية حالة حاصلة من امتزاج استشعار القهر واللّطف والخوف والمحبّة ، وما لم يصل الإنسان الى ذلك المقام لم يحصل له محبّة ما لله فلم يحصل له خشية ما منه وكان خوفه خوفا صرفا من قهره فقط إذا كان له خوف ، ورابعة ـ مراتبه مرتبة قلبه وفي تلك المرتبة يكون إدراكاته شهودا وذوقا ووجدانا ويكون خوفه هيبة فانّ المشاهد لا يرى الله الّا محيطا بنفسه وليس شأن المحاط الّا الهيبة من المحيط وبعد ذلك يكون السّطوة والسّحق والمحق (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) تعليل لخشية العلماء فانّ العزّة يستلزم الخوف الّذى هو أحد جزئي الخشية ، والغفران يستلزم المحبّة الّتى هي جزء آخر منها ، عن الصّادق (ع) يعنى بالعلماء من صدّق قوله فعله ومن لم يصدّق قوله فعله فليس بعالم ، وعن السّجّاد (ع) : ما العلم بالله والعمل الّا الفان مؤتلفان ، فمن عرف الله خافه وحثّه الخوف على العمل بطاعة الله ، وانّ أرباب العلم واتباعهم الّذين عرفوا الله فعملوا له ورغبوا اليه وقد قال الله : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) جواب سؤال مقدّر كأنّه قيل : فما لمن يخشى الله؟ ـ فقال : انّ الّذين يخشون الله لكنّه ابدله بما ذكر في الآية للاشعار بانّ الّذين يخشون الله يتلون كتاب الله (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) قد مضى في اوّل البقرة بيان هذه الكلمات والاختلاف بالمضىّ والاستقبال في تلك الأفعال لا يخفى وجهه على الفطن (يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) لن تفسدوا المعنى انّهم بأنفسهم يرجون ذلك أو يرجى لهم تجارة لن تبور فينبغي ان يرجوا بأنفسهم ذلك (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ) تعليل للرّجاء أو للتّجارة ، أو لقوله لن تبور أو لقوله يتلون والمعطوفات عليه (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ) فلا يحاسبهم على مساويهم فيصير ترك المحاسبة زيادة من فضله (شَكُورٌ) فيزيدهم لا محالة