مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَواصَوْا بِهِ) يعنى انّ الاوّلين والآخرين تواصوا بهذا القول في حقّ الرّسول (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) ومقتضى طغيانهم عدم الانقياد للحقّ تعالى (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) عن المحاجّة والمجادلة معهم بعد إتمامك الحجّة وإصرارهم على الإنكار (فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) بعد ذلك (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) وان لم يتذكّر بها الكافرون والمنافقون في اخبار عديدة انّ النّاس لمّا كذّبوا رسول الله (ص) همّ الله تعالى باهلاك أهل الأرض الّا عليّا (ع) فما سواه بقوله : فتولّ عنهم فما أنت بملوم ثمّ بدا له فرحم المؤمنين ثمّ قال لنبيّه : وذكّر فانّ الذّكرى تنفع المؤمنين ، وعن علىّ (ع) لمّا نزلت : فتولّ عنهم لم يبق أحد منّا الّا أيقن بالهلكة فلمّا نزل وذكّر طابت أنفسنا (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).
اعلم ، انّ الله تعالى كان غيبا مطلقا لم يكن منه خبر ولا اسم ولا رسم فأحبّ ان يتجلّى فيعرف كما في القدسىّ : كنت كنزا مخفيّا فأحببت ان اعرف فخلقت الخلق لكي اعرف ، فخلق الخلق لان يتجلّى عليهم فيألفوه ، ولا يتجلّى عليهم الّا إذا صاروا خارجين من انانيّاتهم ، ولا يخرجون من انانيّاتهم الّا بارتياض النّفوس بما قرّره الله تعالى لذلك وليس الّا العبادات الشّرعيّة ، وأيضا لا يخرجون من انانيّاتهم الّا إذا صاروا عبيدا له تعالى خارجين من عبوديّة أنفسهم وليس المقصود من العبادات ولا من العبديّة الّا ان يصيروا عارفين له متّصلين به منتهين اليه ، فالمقصود من قوله الّا ليعبدون الّا ليعرفون لكنّه ادّاه بهذه العبارة للاشعار بانّ المعرفة لا تحصل الّا بالعبادة أو بالعبديّة ، عن الصّادق (ع) قال : خرج علىّ بن الحسين (ع) على أصحابه فقال : ايّها النّاس انّ الله جلّ ذكره ما خلق العباد الّا ليعرفوه ، فاذا عرفوه عبدوه ، وإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه ، فقال له رجل : يا ابن رسول الله (ص) بابى أنت وأمّي ، فما معرفة الله؟ ـ قال : معرفة أهل كلّ زمان امامهم الّذى يجب عليهم طاعته ، وقوله تعالى (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) ولذلك خلقهم ، المستفاد منه انّ خلقهم للاختلاف ، وعبادة بعضهم وتمرّد بعضهم لا ينافي ذلك ، فانّ الغاية المقصودة والمنظور إليها والمترتّب عليها فعل الفاعل عبادتهم ومعرفتهم ولكن لمّا لم يكن خلق البشر في عالم الكون من الاضداد الّا بان يكونوا مختلفين وكان غاية تلك الخلقة المنتهى إليها خلقتهم اختلافهم قال : ولذلك خلقهم فلا منافاة بينهما ، فانّ العبادة علّة غائيّة لخلقهم والاختلاف غاية مترتّبة عليه (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ) لي ولا لغيري (وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : فما أراد من خلقهم رزقا واعانة (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ) لكلّ مرزوق تعليل يعنى انّ الرّزّاقيّة لا تتأتّى من غيره فكيف يريد رزّاقيّة الغير (ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) الّذى لا حاجة له الى معين في رزّاقيّة (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم بإنكار المبدء أو المعاد ، أو ظلموا الرّسول بعدم انقياده وعدم إعطاء حقّه من تسليم أنفسهم له ، أو ظلموا آل محمّد (ص) حقّهم من عدم تسليم أنفسهم لهم ومن غصب حقوقهم وهذا هو المنظور اليه ، والفاء للسّببيّة لقوله فذكّر (ذَنُوباً) قسطا ونصيبا فانّ الذّنوب الدّلو ، أو الّتى فيها ماء ، أو الملأى ، أو دون الملأى ، أو المراد بالذّنوب اليوم الطّويل الشّرّ (مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ) الّذين اتّبعوهم في ظلم آل محمّد (ص) (فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) بالعذاب (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) بولاية علىّ (ع) (مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) وهو يوم آخر الدّنيا أو يوم القيامة.