من اللّحم والعصب والشّرائين والاوردة والأوتار والعظم مفهّما به ما في ضميره مدركا به طعم الطّعوم (وَشَفَتَيْنِ) تكونان حافظتين للّسان وسائر ما في الفمّ محسنتين للصّورة معينتين على التّكلّم (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) عطف على مجموع الم نجعل فانّه بمعنى جعلنا له عينين أو على مدخول النّفى ، والمراد بالنّجدين سبيل الخير والشّرّ كما في الاخبار ، وقيل : المراد بهما الثّديان ، قيل لأمير المؤمنين (ع) : انّ أناسا يقولون في قوله : وهديناه النّجدين : انّهما الثّديان ، فقال : لا ، هما الخير والشّرّ (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) قحّمته في الأمر تقحيما رميته فيه فجأة بلا رويّة فانقحم واقتحم ، وقحم في الأمر قحوما رمى بنفسه فيه فجأة بلا رويّة ، واقتحم بالغ فيه والعقبة المرقى الصّعب من الجبال ، والمراد بها عقبات النّفس الّتى هي الرّذائل الّتى لا مرقى أصعب منها فانّ العبور عنها وتخلية النّفس منها والتّرقّى منها الى الخصائل أصعب كلّ شيء ولذلك أتى بالاستفهام التّعجيبىّ لتفخيمها وفسّرها بالعبور عن الرّذائل والدّخول في الخصائل بالاشارة الى أمّهاتها فقال : (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ).
شرح في القوى الأربع للإنسان
اعلم ، انّ الإنسان له قوى اربع وكلّ من الأربع لها اعتدال وتوسّط بين الإفراط والتّفريط في الآثار ، والتّوسّط والاعتدال منها ممدوح ومطلوب ، والإفراط والتّفريط مذموم وقبيح ، والقوى الأربع هي العلّامة والعمّالة والشّهويّة والغضبيّة ، فالعلّامة كسلطان البلد يأمر وينهى ويدبّر ، والعمّالة كالوزير الّذى يمضى في امر الملك ، والشّهوية كالنّاظر الوكيل لخرج الجنود ، والغضبيّة كأمير الجنود ، واعتدال العلّامة بتمييزها بين الحقّ والباطل والمحقّ والمبطل والخير والشّرّ كما هي ، ويسمّى ذلك التّميز بالحكمة العلميّة ، ولمّا كان الحكمة العلميّة هي التّميز بين الذّوات والأقوال والأفعال والأحوال والأخلاق والعلوم والوجدانات والخطرات والخيالات والمشاهدات والتفاتات القلب من حيث ارتباطها ورجوعها الى الآخرة ، وكان في ازديادها ازدياد كمال النّفس وفي نقصانها نقصانه لم يكن لها طرفا افراط وتفريط ، بل كانت الجربزة الّتى عدوّها افراط القوّة العلّامة النّفسانيّة تفريطا وقصورا للنّفس عن البلوغ الى درجة الحكمة ، لانّ الجربزة هي التّصرّف بحسب العلم الوهمىّ في الأمور الدّنيويّة زائدا على ما ينبغي وليس ذلك الّا من نقصان ادراك الأمور الاخرويّة ، فالجربزة والبلادة اللّتان عدوّهما طرفي افراط العلّامة وتفريطها معدود ان من قسم البلادة ولذلك فسّروا الأحمق والسّفيه بمن لا يعرف الحقّ سواء كان بحسب الدّنيا سفيها أو لم يكن ، مثل معاوية فانّه كان بحيث سمّاه أهل زمانه بأعقل زمانه ، ولأجل عدم طرف الإفراط المذموم للحكمة قالوا : الرّذائل بحسب الامّهات سبع ، والخصائل بحسب الامّهات اربع ، واعتدال العمّالة بان تكون تحت حكم العاقلة العلّامة وان تقدر على الإتيان بما يأمرها العاقلة ويسمّى بالعدل الّذى هو وضع كلّ شيء في محلّه ولا يمكن ذلك الّا باستخدام الشّهويّة والغضبيّة ، وطرفا افراطه وتفريطه يسمّيان بالظّلم والانظلام ، واعتدال القوّة الشّهويّة ان تكون مطيعة للعمّالة المنقادة للعاقلة العلّامة ويسمّى اعتدالها بالعفّة ، وطرفا افراطها وتفريطها يسمّيان بالشّره والخمود ، واعتدال الغضبيّة يسمّى بالشّجاعة وطرفا افراطها وتفريطها يسمّيان بالتّهوّر والجبن ، وقد يقال : انّ القوى الأربع في الإنسان هي البهيميّة والسّبعيّة والشّيطنة الّتى هي العلّامة النّفسانيّة الوهميّة ، والعاقلة الّتى هي العلّامة العقلانيّة ويجعل العمّالة خادمة للقوى الأربع ويجعل العدل المتوسّط بين الظّلم والانظلام من شعب الشّجاعة ، ويجعل الحكمة الّتى هي التّوسّط بين البلادة والجربزة من مقتضيات العلّامة النّفسانيّة ، ويجعل مقتضى العلّامة العقلانيّة تعديل القوى الثّلاث وتعديل العمّالة بحيث لا يخرج شيء منها من حكم العاقلة ويسمّى بالعدالة وتلك العدالة ليس لها طرفا افراط وتفريط بل لها التّفريط فقط وتفريطها هو قصور العاقلة عن تسخير القوى الثّلاث وهو ظلم من القوى وانظلام للعاقلة وكأنّه أراد العلّامة النّفسانيّة من العمّالة من جعل العمّالة منشأ لبعض الخصال للتّلازم الواقع بينهما فقوله تعالى : فكّ رقبة ان كان المراد به فكّ