بيان السعادة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) اى التّفاخر والتّغالب بكثرة المال والأولاد ، أو بكثرة العشائر والقبائل ، أو الاهتمام في تكثير الأموال والأولاد ، والى كلّ أشير في الاخبار (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) يعنى ما قنعتم بالتّكاثر بالاحياء حتّى عددتم الأموات والحال انّ الاعتبار بالأموات كان اولى من الافتخار بهم ، أو ألهاكم التّفاخر أو طلب الكثرة حتّى متّم ودخلتم المقابر ، والى كلّ أشير في الاخبار (كَلَّا) ردع عنه اى انتهوا عن ذلك (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) انّ الاشتغال عن الآخرة بالتّكاثر سبب دخول الجحيم بل هو دخول في الجحيم لكن لمّا كان مدارككم خدرة وأبصاركم في غشاوة في الدّنيا لم تحسّوا بألمها ولم تبصروا نارها وأنواع عذابها ، أو المعنى سوف تصيرون من أهل العلم وإذا صرتم عالمين رأيتم الجحيم ولم يك ينفعكم علمكم حينئذ (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) تأكيد للاوّل وتخلّل ثمّ للمبالغة في التّأكيد ، أو الاوّل في القيامة الصّغرى والثّانى في القيامة الكبرى (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَ) في الدّنيا (الْجَحِيمَ) كما انّكم في الآخرة تصيرون عالمين فترونّ الجحيم وقد مضى مكرّرا انّ علوم النّفوس لكونها غير المعلومات وجواز انفكاك المعلومات عنها إذا كانت النّفوس مدبرة عن دار العلم سمّيت ظنونا في الكتاب والاخبار بخلاف ما إذا كانت مقبلة على دار العلم ، فانّ ظنونها تصير علوما بل أشرف من العلوم حينئذ ، ومراتب اليقين ثلاث ؛ علم اليقين وهو ادراك الشّيء بصورته الحاصلة عند النّفس بشهود آثار ذلك الشّيء أو وجدانها في وجوده ، وعين اليقين وهو مشاهدة عين ذلك الشّيء ، وحقّ اليقين وهو التّحقّق بذلك الشّيء ، والمعنى لو تعلمون في الدّنيا علم اليقين لادّى بكم الى رؤية الجحيم في الدّنيا فانّ الظنّ يؤدّى الى العلم ، والعلم الى الرّؤية ، والرّؤية الى المعاينة ، والمعاينة الى التّحقّق ، ولقد مرّ تفصيل تامّ لمراتب الظّنّ والعلم واليقين ، والفرق بين العلم الاخروىّ والعلم الدّنيوىّ في سورة البقرة عند قوله تعالى : (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ).
اعلم ، انّ للرّؤية مراتب ؛ فاولى مراتبها المشاهدة بدرجاتها مثل ان يشاهد الشّيء عن بعد من غير تميز جميع معيّناته وجميع دقائق شخصه وصورته ، وثانية مراتبها المعاينة بدرجاتها مثل ان يشاهد الشّيء بجميع مشخّصاته ودقائق وجوده ، وثالثة مراتبها التّحقّق بالمرئىّ بدرجاتها (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَ) الإتيان بثمّ للاشارة الى انّ هذا السّؤال بعد ما علموا انّهم اشتغلوا بما لا فائدة لهم فيه ، أو للتّرتيب في الاخبار (يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) قد ذكر في اخبار كثيرة من جملة النّعيم المسؤل عنه ملائمات القوى الحيوانيّة والملاذّ الدّنيويّة كالطّعام واللّباس والرّطب والماء البارد ، وفي اخبار أخر انكار ان يكون النّعيم المسؤل ذلك وانّ السّؤال والامتنان بالنّعمة وصف الجاهل اللّئيم ، وانّ الله نهى عن ذلك وانّ الله لا يوصف بما لا يرضاه لعباده ، وانّ النّعيم المسؤل عنه محمّد (ص) وعلىّ (ع) ، أو حبّنا أهل البيت ، أو ولايتنا أهل البيت ، والتّحقيق في هذا المقام والتّوفيق بين الاخبار انّ النّعمة كما مرّ مرارا ليست الّا الولاية وكلّ ما اتّصل بالولاية سواء كان من ملائمات الحيوانيّة أو من موذيات القوى الحيوانيّة ، وبعبارة اخرى سواء عدّ من النّعم الدّنيويّة أو من النّقم الدّنيويّة كان نعمة ، وكلّ ما انقطع عن الولاية كان نقمة وان كان بصورة النّعمة ، وكلّ من اتّصل بالولاية كان ضيفا لله وكان جميع نعمه الصّوريّة والمعنويّة مباحة له وكان مأمورا بالتّصرّف فيها بمنطوق قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) ولا يسأل الله تعالى عن شيء منها ولو سأل كان سؤاله مثل السّؤال