ومن رجا درجات الآخرة ومقاماتها يكون ناظرا إليها متوجّها في اعماله وأحواله الى جهتها ، ومن لم يعتقدها أو لم يكن عمله لها لم يكن راجيا لها ، والمقصود تأديب المؤمنين الّذين بايعوا البيعة الخاصّة بان لا ينظروا الى ظاهر أفعالهم وأحوالهم فيتركوا معاشرتهم ونصحهم ودلالتهم على خيرهم فانّهم كانوا كذلك فمنّ الله عليهم بالايمان ورجاء ايّام الله ، وشكر هذه النّعمة ان يرحموا عباد الله ويظهروا ما أنعم الله به عليهم ويدلّوا غيرهم عليها فانّ الله إذا أنعم على عبد احبّ ان يراها عليه ، ومن لم يظهرها كان كافرا لتلك النّعمة ، عن الصّادق (ع) انّه قال : قل للّذين منّنا عليهم بمعرفتنا ان يعرفوا الّذين لا يعلمون فاذا عرفوهم فقد غفروا لهم (لِيَجْزِيَ قَوْماً) قرئ بالغيبة والبناء للفاعل ، والفاعل هو الله وبالبناء للمفعول وضمير المصدر يكون نائبا عن الفاعل ، وقرئ بالنّون (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) قيل : يقول الله تعالى لائمّة الحقّ : لا تدعوا على ائمّة الجور حتّى يكون الله هو الّذى يعاقبهم (مَنْ عَمِلَ صالِحاً) جواب لسؤال مقدّر في مقام التّعليل لغفرانهم (فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) فلا حاجة للمسيء الى عقوبة اخرى منكم.
اعلم ، انّ انسانيّة الإنسان تقتضي الإحسان والعمل الصّالح ، فاذا أحسن الإنسان كان الإحسان ملائما له من حيث انسانيّته والواصل الى ملائمته ملتذّ بها ومنتقم بها ، فلو لم يكن له أجر آخر كان الوصول الى ملائماته كافيا له اجرا وثوابا والحال انّ الإحسان يتجسّم له في الآخرة بأحسن صورة ويستتبع صورة اخرى مناسبة له فالمحسن يتنعّم بإحسانه ثلاث مرّات ، وإذا أساء الإنسان كان الاساءة منافية لانسانيّته وغير الملائم موذ للإنسان وان كان تلك الاساءة ملائمة لقوّة اخرى بهيميّة أو سبعيّة أو شيطانيّة فلو لم يكن للمسيء عقوبة اخرى كان الاساءة كافية له عقوبة ، والحال انّ الاساءة تتجسّم في الآخرة بصورة قبيحة موذية وتستتبع صورة اخرى قبيحة موذية في الآخرة ، فالمسيء يعاقب بإساءته ثلاث مرّات ، وللاشارة الى النّفع والضّرّ الحاصلين حين الإحسان والاساءة قال : من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها يعنى حين العمل يكون نفعه وضرّه حاصلين له ، وللاشارة الى الأجر والعقوبة الاخرويّين قال تعالى : (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ وَلَقَدْ آتَيْنا) عطف على قوله تنزيل الكتاب من الله أو عطف على قوله الله الّذى سخّر لكم البحر ووجه المناسبة غير مخفىّ (بَنِي إِسْرائِيلَ) يعنى بنى يعقوب (الْكِتابَ) قد مضى مكرّرا انّ الكتاب يطلق على الولاية وآثارها ، والنّبوّة وأحكامها ، والرّسالة وأحكامها ، والكتاب التّدوينىّ صورة الكلّ فيجوز ان يراد بالكتاب هاهنا التّوراة والرّسالة والولاية والاولى ان يراد به التّوراة أو الرّسالة (وَالْحُكْمَ) ان أريد بالكتاب التّوراة فالمراد بالحكم الحكومة بين النّاس الّتى هي لازم الرّسالة فيكون كناية عن الرّسالة ، وان أريد به الرّسالة فالمراد بالحكم الحكمة الّتى هي عبارة عن اللّطف في العلم والعمل الّذى هو من آثار الولاية (وَالنُّبُوَّةَ) بحيث قيل : انّه كان فيهم الف نبىّ (ع) (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) بحسب مقامهم الحيوانىّ من المأكول والمشروب والملبوس والمسكون والمركوب ، وبحسب مقامهم الانسانىّ ممّا كان يرد عليهم من الغيب من العلوم والوجدانات والمشاهدات (وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) بواسطة إيتاء ذلك لهم والمراد بالعالمين أهل زمانهم والّا فامّة محمّد (ص) كانوا أفضل منهم (وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ) المراد بالبيّنات المعجزات أو احكام الرّسالة أو احكام النّبوّة أو دلائل امر الرّسالة أو النّبوّة أو الولاية ، والمراد بالأمر المذكورات ، أو عالم الأمر ، أوامر الله ، ومن للابتداء ، أو للتّبعيض ، أو للتّعليل وهذا تعريض بامّة محمّد (ص) كأنّه تعالى قال : فتنبّهوا يا أمّة محمّد (ص) فانّا آتيناكم الكتاب والحكم والنّبوّة ورزقناكم من الطّيّبات وفضّلناكم على العالمين وآتيناكم بيّنات من الأمر فلا تختلفوا حين حياة محمّد (ص) ولا بعد مماته مثل بنى إسرائيل فتستحقّوا عقوبتي مثلهم (فَمَا اخْتَلَفُوا) بالرّدّ والقبول (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ