فقالت : نحن في عهد محمّد (ص) وعقده ، وقامت بنو بكر فقالت : نحن في عهد قريش وعقدها ، وكتبوا نسختين نسخة عند رسول الله (ص) ونسخة عند سهيل بن عمرو ، ورجع سهيل بن عمرو وحفص بن الأحنف الى قريش فأخبراهم وقال رسول الله (ص) لأصحابه : انحروا بدنكم واحلقوا رؤسكم فامتنعوا وقالوا : كيف ننحر ونحلق ولم نطف بالبيت؟ ـ ولم نسع بين الصّفا والمروة؟! فاغتمّ لذلك رسول الله (ص) وشكا ذلك الى امّ سلمة ، فقالت : يا رسول الله (ص) انحر أنت واحلق فنحر رسول الله (ص) وحلق فنحر القوم على حيث يقين وشكّ وارتياب ، فقال رسول الله (ص) تعظيما للبدن : رحم الله المحلّقين ، وقال قوم لم يسوقوا البدن : يا رسول الله والمقصّرين لانّ من لم يسق هديا لم يجب عليه الحلق ، فقال رسول الله (ص) ثانيا : رحم الله المحلّقين الّذين لم يسوقوا الهدى ، فقالوا : يا رسول الله (ص) والمقصّرين ، فقال : رحم الله المقصّرين ، ثمّ رحل رسول الله (ص) نحو المدينة فرجع الى التّنعيم ونزل تحت الشّجرة فجاء أصحابه الّذين أنكروا عليه الصّلح واعتذروا وأظهروا النّدامة على ما كان منهم وسألوا رسول الله (ص) ان يستغفر لهم ، فنزلت آية الرّضوان.
اعلم ، انّ اختلاف الأقوال والاخبار في بيان هذا الفتح وتعليله بمغفرة الله ذنوبه المتقدّمة وذنوبه المتأخّرة وقول النّبىّ (ص) بعد نزول هذه الآية وهذه السّورة : لقد نزلت علىّ آية هي احبّ الىّ من الدّنيا وما فيها ، وتعقيب غفرانه بإتمام النّعمة والهداية والنّصر وإنزال السّكينة كلّها يدلّ على انّ المراد بهذا الفتح ليس فتح مكّة ولا فتح خيبر ولا فتح سائر البلاد فقط بل المراد فتح هو أصل سائر الفتوح وهو فتح باب الأرواح الى الجبروت بل الى اللّاهوت ، وفي هذا الفتح يكون جميع الفتوحات من فتح البلاد ومن إيصال النّعم الصّوريّة والمعنويّة والنّصر على الأعداء والحكم بينه وبين أعداءه وكيفيّة الحكومة بين الخلق والعلم بالأشياء ، وبالجملة هذا الفتح هو الّذى يصير سببا لغفران ذنوب من اتّصل به ودخل تحت لوائه كائنا من كان وان كان ذنوبه بعدد قطرات البحار وأجزاء الرّمال ولذلك قال علىّ (ع): دينكم دينكم فانّ السّيّئة فيه مغفورة والحسنة في غيره غير مقبولة ، وهذا الفتح هو الّذى لا يبقى معه نقص وقصور لصاحبه ، وبهذا الفتح يصير صاحبه خاتما للكلّ في الكلّ ، وهذا الفتح هو الّذى يكون احبّ الأشياء الى صاحبه (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ).
اعلم ، انّ ذنب كلّ إنسان بحسب مقامه ومنزلته ، فانّ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين وتوبة الأنبياء من الالتفات الى غير الله كما انّ توبة الأولياء من خطرات القلوب وقد قال فيما نسب اليه : انّه ليران على قلبي وانّى لاستغفر الله كلّ يوم سبعين مرّة ، وانّ الرّسول لمّا كان أبا لجميع أمّته والابوّة الرّوحانيّة كما مرّ في سورة البقرة عبارة عن تنزّل الأب الى مقام الابن والبنت وصيرورته فعليّة اخيرة لهما من غير تجاف عن مقامه العالي وكان شيئيّة الشّيء بفعليّته الاخيرة كان الرّسول شيئيّة كلّ أمّته وفعليّتهم الاخيرة ، فما ينسب الى أمّته من الذّنوب صحّ ان ينسب اليه بوجه ، وما غفر الله لامّته من ذنوبهم صحّ ان يقال : غفر الله تعالى له ذنوبه بمغفرة ذنوب أمّته ، ولمّا كان رسالته خاتم الرّسالات وكلّ الأنبياء كانوا تحت لوائه وتحت رسالته وكلّ الشّرائع تحت شريعته صحّ ان يقال : انّ من كان على دين من آدم (ع) وأمّته الى انقراض العالم كلّهم كانوا أمّته فصحّ ان يقول الله تعالى : انّا فتحنا لك هذا الفتح العظيم ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنوبك اللّائق بشأنك على هذا الفتح وما تأخّر وصحّ ان يقول : ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنوب أمّتك المتقدّمين من لدن آدم (ع) وما تأخّر من ذنوب أمّتك المتأخّرين الى انقراض العالم ، وصحّ ان يقول : انّا فتحنا لك مكّة ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك بزعم مشركي مكّة على زمان الفتح وما تأخّر فانّه كان أعظم ذنبا عندهم من كلّ مذنب أو ما تقدّم على الهجرة وما تأخّر عنها كما ورد عن الرّضا (ع) ، وصحّ ان يقال المعنى : انّا اظفرناك على