وأما الثانى : فطريقه أن يقال : لو لم يلزم من انتفاء الدليل انتفاء المدلول ؛ لما ثبت المدلول عند وجود دليله ؛ لاحتمال أن يكون الغلط واقعا فيه ؛ مع عدم الدليل عليه ، ولجاز أن يكون بين أيدينا جبال شامخة ، وأمور هائلة ، وإن كنا لا نحس بها ، ولا قام الدليل على وجودها ؛ وهو ممتنع.
وهو أيضا : غير يقينى ؛ فإنه لا يلزم من البحث والسبر العلم بعدم الدليل ؛ بل غايته عدم العلم بالدليل ، ولا يلزم من عدم العلم بالدليل ؛ عدم الدليل في نفسه.
سلمنا : أنه يلزم منه عدم الدليل في نفسه ؛ غير أنه يلزم من انتفاء دليل النفى ؛ انتفاء النفى ؛ لما قررتموه ، ونفى النفى ثبوت ؛ فانتفاء أدلة النفى من جملة أدلة الإثبات.
وعند ذلك : فإن ادعى نفى بعض [أدلة] (١) الإثبات ؛ فلا يلزم منه عدم الإثبات ؛ لجواز ثبوته بدليل آخر.
وإن ادعى انتفاء جميع أدلة الإثبات ؛ حتى يدخل فيها انتفاء أدلة النفى ؛ فقد سلّم أن دليل النّفى ؛ غير منتف ؛ فيكون ثابتا. وعند ذلك فيكون النفى محالا على دليله ، لا على عدم دليل الإثبات.
سلمنا : انتفاء جميع أدلة الإثبات ؛ ولكن لا نسلم أنه يلزم منه عدم المدلول ، فإنا لو قدرنا أنه لا دليل على وجود الإله غير حدوث الحوادث ، وقدرنا عدم حدوث الحوادث ؛ لم يلزم منه عدم الإله تعالى.
وأما العلم بانتفاء الغلط ، عند العلم بلزوم المدلول عن النظر الصحيح ؛ فمستند إلى دليل انتفاء الغلط ؛ وهو العلم بالمقدمات البديهية ، أو المستندة إلى البديهيات ، لا إلى عدم دليل الغلط ، والعلم بعدم الجبال الشامخة بين أيدينا إذا لم تكن محسوسة ؛ فبديهى. لا أنه مستند إلى العلم بانتفاء دليل الوجود وإلا كان نظريا.
سلمنا : دلالة ما ذكرتموه على عدم المدلول ؛ ولكنه معارض بما يدل على أنه غير معدوم : وهو انتفاء دليل العدم على ما قررتموه ، ولا سبيل إلى الجمع بين الوجود والعدم ، ولا سبيل إلى الترجيح ؛ لعدم الأولية.
__________________
(١) فى أ (الأدلة)