فإن قيل : هذه الأمور اللازمة وإن كانت مفتقرة إلى فاعل مرجح ؛ لكنها لا تفتقر إلى صفة قائمة بمحلها ـ تكون علة لها ـ كما في افتقار العالمية في الشاهد إلى صفة العلم ـ وهو المقصود بلفظ العلة ـ ، وإذا لم يفتقر إلى علة ، لكونها لازمة ؛ فكذلك فيما نحن فيه.
قلنا : تفسير عدم افتقارها إلى العلة بالمعنى المذكور ـ وإن كان صحيحا ـ فقولهم : إنها لا تفتقر إلى العلة لكونها لازمة ، ممنوع ؛ بل لا مانع من أن تكون معللة ـ وإن كانت لازمة ـ ، وتكون علتها ملازمة أيضا.
والقول بأنه لا يعلل إلا ما كان جائزا ، فإنما ينفع أن لو كانت هذه الأحكام غير جائزة ، ولا يمتنع القول بجوازها من حيث إنه لا يمكن القول بعدمها إلا وقد لزم المحال عنه ؛ لأن المحال قد يلزم عند فرض عدم الشيء لنفسه ؛ فيكون واجبا لذاته.
وقد يكون فرض المحال لازما عن أمر خارج ـ وإن كان الشيء في نفسه جائزا ـ وذلك كما في فرض عدم المعلول مع وجود علته : كالكسر مع الانكسار ، ونحوه ؛ فلما لم يبينوا أن المحال اللازم عند فرض عدم هذه الأحكام ، لازم لنفسها ، لا لوجود عللها ؛ لا يلزم أن تكون واجبة لنفسها ؛ فهذا خلاصة ما ذكره الأصحاب في هذا الباب.
واعلم أن هاهنا طريقة رشيقة (١) ، سهلة المعرك ، قريبة المدرك ، يعسر على المنصف المتبحر ، الخروج عنها ، والقدح فيدلالتها / يمكن طردها في إثبات جميع الصفات النفسانية ، وهى مما ألهمنى الله تعالى إياه ، ولم أجدها على صورتها ، وتحريرها لأحد غيرى (٢) ، وذلك أن يقال :
المفهوم من كل واحد من الصفات المذكورة : إما أن يكون في نفسه وذاته ـ مع قطع النظر عما تتصف به ـ صفة كمال ، أو لا صفة كمال. لا جائز أن تكون لا صفة كمال ؛
__________________
(١) فى ب (وثيقة).
(٢) هذه الطريقة من مبتكرات الآمدي. وقد تأثر به فيها ابن تيمية انظر ابن تيمية السلفى ص ١١١ ، ١١٦ ، وتلاميذه من بعده. انظر مدارج السالكين لابن القيم ١ / ص ٣١ ، وشرح الطحاوية ص ٣٩ ـ ٤٠ لابن أبى العز الحنفى.
والشيخ محمد عبده في شرحه على العقائد العضدية ص ٢٧٦ وما بعدها. وقد نقل ابن تيمية في كتابه (درء تعارض العقل والنقل ٤ / ٣٧ ، ٣٨) من أول قول الآمدي «واعلم أن هاهنا طريقة رشيقة ... إلى قوله ومحال أن يكون الخالق أنقص من المخلوق» وعلق عليه بقوله : «قلت : هذه الحجة مادتها صحيحة ، وقد استدل بها ما شاء الله من السلف والخلف الخ».