وإذا أتينا على ما هو المنقول عن أرباب هذه المذاهب في هذه المسألة ؛ فلا بد من الإشارة إلى طرق عول عليها بعض الأصحاب في المسألة ، والتنبيه على ضعفها ، ثم نبين بعد ذلك ما هو المعتمد إن شاء الله ـ تعالى.
فمنها : التمسك بقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١) ووجه الاحتجاج به أنه أخبر بأن مصدر جميع المخلوقات أمره ، وهو قوله : (كن).
ويلزم من ذلك أن يكون أمره قديما ، وإلا لاستدعى أمرا آخر ، والكلام في ذلك الأمر كالكلام في الأول ؛ وهو تسلسل ممتنع.
فإن قيل : ليس المراد من الآية تحقيق الأمر القولى ، وخطاب ما أريد خلقه به ؛ بل المراد به إنما هو تعريف بعود الإرادة ، والمشيئة في المخلوقات ، والتسخير على وفق الإرادة والاختيار ؛ إذ هى حالة تنزل منزلة القول بالأمر ، والنهى. وقد يرد القول بمعنى الحالة ، لا بمعنى الكلام حقيقة ، وإليه الإشارة بقوله ـ تعالى ـ (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (٢).
وليس المراد من قوله ـ تعالى ـ (فَقالَ لَها) غير التعبرة عن نفوذ الإرادة في السماء ، والأرض ، وكمال التسخير ؛ فإن خطاب الجماد متعذر باتفاق العقلاء.
وليس المراد من قوله : (قالَتا أَتَيْنا / طائِعِينَ) غير التعبرة عن تمام الطواعية ، والانقياد لإرادة الله ـ تعالى ـ ، لا نفس الكلام الحقيقى ؛ إذ هو متعذر في الجمادات قطعا.
ومن ذلك أيضا قال الشاعر :
امتلأ الحوض وقال قطنى |
|
مهلا رويدا قد ملأت بطنى (٣) |
أضاف القول إلى الحوض ؛ وليس المراد به غير التعبرة عن الحالة ؛ لاستحالة القول في حقه. وأمثال ذلك في النظم ، والنثر كثير.
__________________
(١) سورة النحل ١٦ / ٤٠ صححت الآية حيث كانت في أ ، ب (إنما أمرنا ... الخ).
(٢) سورة فصلت ٤١ / ١١.
(٣) ورد في لسان العرب مادة قطن بالنص الآتى :
امتلأ الحوض وقال قطنى |
|
سلا رويدا قد ملأت بطنى |
كما ورد في شواهد العينى على خزانة الأدب ١ / ٣٦١.