الفصل الثانى
في مراتب العلوم
لا نعرف خلافا في جواز كون العلم النّظرى مستندا إلى علم ضرورى ، أو إلى علم نظرى يستند في الآخرة إلى علم ضرورى.
وإنّما الخلاف في جواز استناد العلم الضّرورى إلى النّظري ، أو إلى ضرورى آخر. أما استناد العلم الضّرورى إلى النظرى (١) ؛ فقد اختلف أصحابنا فيه :
فمنهم من جوّزه اعتمادا منه على أنّ العلم باستحالة اجتماع الضّدين ضرورى ، والتّضاد لا يكون إلا بين الأعراض. والعلم بوجود الأعراض نظرى لا ضرورى ؛ فالعلم باستحالة اجتماع الأضداد (٢) ضرورى ؛ وهو مستند إلى العلم بوجود الأضداد ؛ وهو نظرى ؛ ولهذا فإن (٣) من لا يعلم وجود الأضداد ، لا يحكم باستحالة اجتماعها.
وأنكره الباقون : من حيث أن العلم الضّرورى لا خلوّ للنفس عنه. بخلاف العلم النظرى فإنه لا يمتنع الخلوّ عنه بتقدير عدم النظر. فلو كان العلم الضرورى مستندا إلى العلم النّظرى ؛ لأفضى إلى جواز خلو النفس عن الأصل مع امتناع خلوها عن التابع ؛ وهو محال.
ثمّ اختلف هذا الفريق في الجواب عن مستند الفريق الأول :
فمنهم من قال بأنّ العلم باستحالة اجتماع الضّدين نظرى ، وليس بضرورى ، ولهذا يحسن إقامة الدّليل عليه على من قال : بجواز اجتماع الحركة ، والسّكون. والسّواد ، والبياض في محلّ واحد من أرباب الكمون والظّهور (٤).
__________________
(١) انظر المواقف للإيجي ص ١٤٧ وشرح المقاصد للتفتازانى ١ / ١٧٢.
(٢) في ب (الدين).
(٣) في ب (قال).
(٤) والذين اشتهروا بهذا الاسم هم النظامية أتباع النّظّام ؛ إذ أن الخلق عند النّظّام فعل واحد ؛ فالله خلق الدنيا جملة ، والموجودات خلقت كلها دفعة واحدة ؛ ولكن بعضها يكون كامنا في بعض ، وبمرور الزمن تخرج أنواع المعادن ، والنبات ، والإنسان من مكامنها.
(انظر الملل والنحل ١ / ٥٦ وتاريخ الفلسفة في الإسلام لديبور ص ٤٧).