«الفصل الحادى والعشرون»
فى الترك ، وتحقيق معناه
اعلم أن الترك : قد يطلق فى اللغة على عدم الفعل. ولهذا يصح أن يقال : ترك فلان الفعل الفلانى. إذا لم يفعله ، وسواء تعرض لضده ، أم لا.
وسواء كان قاصدا له ، أم لا. كما فى حالة النوم ، والغفلة. ولا مانع منه لغة مع شيوعه ، وإن خالف فيه بعض المتكلمين ؛ لكن بشرط أن يكون ذلك الفعل مقدورا فى العادة.
ولهذا : فإنه لا يحسن أن يقال : ترك فلان خلق الأجسام ، والألوان : عند عدم خلقه لهما ؛ حيث لم يكن الخلق له مقدورا ، وقد يطلق الترك (١) فى غالب اصطلاح المتكلمين : على موجود مقدور مضاد لموجود آخر مقدور فى العادة ؛ وذلك كما يقال :
ترك فلان الحركة يمنة بالحركة يسرة ، وكذلك بالعكس ، وترك فلان الحركة بالسكون ، وبالعكس ، ولا يحسن إطلاق ذلك عند كون كل واحد من الضدين غير مقدور.
ولهذا لا يحسن أن يقال : ترك فلان بقعوده ، أو قيامه : الصعود إلى السماء ، أو خلق الأجسام ، والألوان ؛ حيث لم يكن الصعود إلى السماء ، وخلق الأجسام والألوان ، مقدورا للعبد. ولا يحسن أن يقال : ترك فلان بحركته (٢) الاضطرارية ، الحركة الاختيارية. ولا بحركته (٢) الاضطرارية ، الصعود إلى السماء.
وعلى هذا : إن أوجبنا ربط الثواب والعقاب ، بالأفعال ؛ فلا يكون مرتبطا بالترك بمعنى عدم الفعل ؛ بل بالاصطلاح الأصولى. وإن لم يوجب ارتباطه بالفعل ؛ بل جوزنا نصب العدم علامة على الثّواب ، والعقاب ؛ فلا مانع من ارتباطه بالترك بالمعنى اللغوى.
وعلى كلا الاصطلاحين : فيمتنع إطلاق ترك خلق العالم فى الأزل على الله ـ تعالى ـ إذ الخلق فى الأزل غير مقدور.
ويخص امتناع ذلك على الاصطلاح الأصولى : أن الترك لذلك فعل مضاد لخلق العالم ، وتقدير فعل الله ـ تعالى ـ فى الأزل غير ممكن.
__________________
(١) فى ب (الخلق).
(٢) فى ب (الحركة الاضطرارية لا الحركة الاختيارية ولا الحركة).