وهذا من المباحث الحساسة في النبوّة العامة ، إذ به تتبين حدود المعجزة التي تميّزها وتفصلها عن سائر خوارق العادة .
والجواب : إنّ هناك مجموعة من الضوابط والحدود التي تمتاز بها المعجزة عن سائر خوارق العادة وهي :
إنّ ما تنتجه الرياضة والسحر والشعوذة من آثارٍ خارقة للعادة ، جميعها خاضعة لمناهج تعليمية ، لها أساتذتها وتلامذتها ، وتحتاج إلى الممارسة المتواصلة والدؤوبة حتى يصل طالبها إلى النتائج المطلوبة ، فينام على مسامير مُحَدَّدَة ، وتكسر الصخور بالمطارق على صدره ، من دون أن يصاب بجراح في صدره أو ظهره ، أو يقوم بحركات توجب تأثيراً نفسياً على إنسان آخر ، فيُذهب وَعْيَه ويتصرف فيه ، أو يقوم بألاعيب خفيّة يبهر بها العيون ، ويستولي بها على القلوب ، فيصوّر غير الواقع واقعاً متحققاً . وكل هذا أثر التعليم والتعلّم وكثرة الممارسة والمجاهدة .
وأمّا الإعجاز الذي يقوم به الأنبياء فإنّه منزّه عن هذه الوصمة ، فإنّ ما يأتونه من الأعمال المدهشة الخارقة للعادة ، لم يدرسوه في منهاج ، ولا تلقوه على يد أُستاذ ، ولا قضوا أعمارهم في التدرّب والتمرّن عليه .
ولأجل ذلك نرى أنّ الكليم عليه السلام عندما رجع من مَدْيَن إلى مصر : ( نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللَّـهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ، فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّىٰ مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ، يَا مُوسَىٰ أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ * اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ، وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ، فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ . . ) (١) .
فكان هذا عملاً إبداعياً غير مسبوق بتعلّم ولا تمرّن ، ولذلك استولى عليه
__________________
(١) سورة القصص : الآيات ٣٠ ـ ٣٢ .