الرائجة في عصورهم ، حتى يتسنى لخبراء كل فنّ تشخيص المعاجز وإدراك استنادها إلى القدرة الغيبيّة ، وتمييزها عن الأعمال الباهرة المستندة إلى العلوم والفنون الرائجة . وتتّضح حقيقة ما ذكرناه ، في السحرة الذين بارزوا موسى عليه السلام ، فإنّهم ـ لكونهم من أهل الخبرة والمعرفة بحقيقة السحر وفنونه ـ أدركوا فوراً ، بعدما ألقى موسى عصاه وانقلبت ثعباناً حيّاً التقف حبالهم وعصيّهم أدركوا أنّه ليس من جنس السحر ، وأنّه معجزة خارقة متصلة بالقدرة الإلهية ، ولذلك سرعان ما خضعوا للحق كما يحكيه عنهم تعالى بقوله : ( وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) (١) .
قال القاضي عبد الجبار : « إنّ المُشَعْوِذ والمحتال إنّما يَنفذ حيلته على من لم يكن من أهل صناعته ، ولا يكون له دراية ومعرفة ، وليس هذا حال المعجزة ، فقد جعل الله سبحانه وتعالى معجزة كل نبي مما يتعاطاه أهل زمانه ، حتى جعل معجزةَ موسى عليه السلام قَلْبَ العصا حيّةً ، لما كان الغالب على أهل ذلك الزمان ، السحر . وجعل معجزة عيسى عليه السلام إبراءَ الأَكْمَهِ والأَبْرَصَ ، لما كان الغالب على أهل زمانه الطب . وجعل معجزة نبينا محمد صلى الله عليه وآله « القرآن » ، وجعله في أعلى طبقات الفصاحة ، لما كانت الغلبة للفصاحة والفصحاء في ذلك الزمان ، وبها كان يفاخر أهله ويتباهى » (٢) .
إنّ أصحاب المعاجز يتبنون أهدافاً عالية ، ويتوسلون بمعاجزهم لإثبات أحقية تلك الأهداف ، ونشرها . وهي تتمثل في الدعوة إلى عبادة الله تعالى وحده ، وتخليص الإنسان من عبودية الأصنام والحجارة والحيوانات ، والدعوة إلى الفضائل ونبذ الرذائل ، واستقرار النظام الاجتماعي للبشر ، وغير ذلك .
وهذا بخلاف المرتاضين والسحرة ، فغايتهم إمّا كسب الشهرة والسمعة بين
__________________
(١) سورة الأعراف : الآيتان ١٢٠ ـ ١٢١ .
(٢) شرح الأُصول الخمسة ، ص ٥٧٢ .