وإرجاع الوحي الإلهي إلى الوحي النفسي هو الجامع بين النظريتين المتقاربتين التاليتين اللتين طرحتا في زماننا هذا . .
هذه النظرية مأثورة عن المستشرق « مونتييه » وفصّلها « إميل درمنغام » ، وحاصلها أنّ الوحي إلهام يفيض من نفس النبي الموحى إليه لا من الخارج . وذاك أنّ منازع نفسه العالية ، وسريرته الطاهرة ، وقوة إيمانه بالله وبوجوب عبادته ، وترك ما سواها من عبادة وثنية ، وتقاليد وراثية رديئة ، يكون لها في جملتها من التأثير ما يتجلى في ذهنه ، ويُحدث في عقله الباطن ، الرؤى والأحوال الروحية فيتصور ما يعتقد وجوبه ، إرشاداً إلهياً نازلاً عليه من السماء بدون وساطة . أو يتمثل له رجل يلقنه ذلك ، يعتقد أنّه ملك من عالم الغيب ، وقد يسمعه يقول ذلك ولكنه إنّما يرى ويسمع ما يعتقده في اليقظة ، كما يرى ويسمع مثل ذلك في المنام الذي هو مظهر من مظاهر الوحي ، عند جميع الأنبياء . فكلَّ ما يُخْبر به النبي أنّه كلام القي في روعه ، أو ملك ألقاه على سمعه ، فهو خبر صادق عنده .
ويقول أصحاب هذه النظرية : لا نشك في صدق الأنبياء في إخبارهم عمّا رأَوْا وسمعوا ، وإنّما نقول إنّ منبع ذلك من نفسه وليس فيه شيء جاء من عالم الغيب الذي يقال إنّه وراء عالم المادة والطبيعة (١) .
ويقولون في نفس النبي الأكرم إنَّه توصّل إلى الوحي بالإنقطاع إلى عبادة الله تعالى والتوجه إليه في خلوته بغارِ حِراء ، وقَوِيَ هنالك إيمانُه ، وسَما وُجدانُه ، فاتّسع محيطُ تفكُّرِهِ ، وتضاعف نور بصيرتِه ، فاهتدى عقله الكبير إلى الآيات البيّنات في ملكوت السموات والأرض ، الدالّة على وحدانية مبدع الوجود ، وسرّ النظام الساري في كل موجود ، بما صار به أهلاً لهداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور ، وما زال يفكّر ويتأمل ، وينفعل ويتململ ، ويتقلّب بين الآلام والآمال ، حتى أيقن أنّه النبي المنتظر الذي يبعثه الله لهداية البشر . فتجلّى
__________________
(١) لاحظ الوحي المحمدي ، صفحة ٦٦ ، الطبعة السادسة ، ١٩٦٠ م .